جونسون بين ترامب وأوروبا

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

إن علاقات بريطانيا بأمريكا تضرب بجذورها الراسخة في عمق التاريخ المشترك بين البلدين، بالنظر إلى الروابط اللغوية والثقافية والعرقية التي تجمع بين الطرفين منذ أن كان الساحل الشرقي لأمريكا يسمى بإنجلترا الجديدة، وكان يضم 6 ولايات شكلت النواة الأولى لما بات يُعرف الآن بالولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي، فإنه على الرغم من التوترات التي شهدتها العلاقة بين واشنطن ولندن منذ إعلان استقلال أمريكا عن التاج البريطاني، فإن الروابط بين الجانبين ظلت محورية واستراتيجية على أكثر من صعيد، لاسيما في سياق ما يسمى بتحالف «العيون الخمس» الذي يضم الدول الأنجلوسكسونية الرئيسية (أمريكا، بريطانيا، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا) التي تُهيمن بشكل كبير على المنظومتين الاقتصادية والسياسية في العالم.
وقد عادت هذه العلاقة مؤخراً لتتصدر مشهد السياسة العالمية بعد تولي بوريس جونسون، منصب رئاسة الحكومة البريطانية في ظرف إقليمي ودولي عاصف، يتميز بطغيان ملف «بريكست» على العلاقة ما بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من جهة، وتزايد حدة الصراع الاقتصادي في العالم بين واشنطن وبكين، وبين واشنطن وبروكسل من جهة أخرى.
ومن اللافت في هذا السياق، أن الرئيس الأمريكي عمِل منذ توليه السلطة في البيت الأبيض، على تشجيع المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي، وعبر عن إعجابه في عدة مناسبات بشخصية جونسون، وأسهم في توفير الأجواء السياسية والإعلامية المناسبة لترشيح المحافظين له، لتولي منصب رئاسة الوزراء، كما عرض مساعدة واشنطن للاقتصاد البريطاني من أجل تمكينه من فك الارتباط بالاقتصاد الأوروبي بأقل الخسائر الممكنة.
وعليه، فإن التحدي الأكبر الذي سيواجهه جونسون في المرحلة المقبلة، يتمثل في محاولة الإبقاء على علاقات متوازنة مع الجار الأوروبي بقيادة ألمانيا وفرنسا والحليف الأمريكي في اللحظة نفسها؛ لأن مشكلة «بريكست» التي تواجهها لندن في المرحلة الراهنة، جاءت من منطلق حرص قسم كبير من المجتمع البريطاني على الحفاظ على السيادة الوطنية، التي يرى القوميون المتشددون أنها كانت مخترقة من طرف بروكسل، وسيكون من غير اللائق أن تتحرّر المملكة المتحدة من قيود الاتحاد الأوروبي لتسقط في قيود التبعية لواشنطن.
ومن الواضح أن التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي خلال السنتين الماضيتين بشأن ملف «بريكست»، تؤكد فرضية وجود أجندة أمريكية يريد ترامب أن يفرضها على جونسون، حيث أكد ترامب أن بلاده بدأت مفاوضاتها التجارية مع الجانب البريطاني، كما أشار إلى أن واشنطن ولندن تعملان بشكل فعلي من أجل التحضير لاتفاق تجاري بين الجانبين وعد بأنه سيكون مهماً، ويتعلق بمرحلة ما بعد «بريكست»، مدعياً أن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي كانت تمنع واشنطن من تطوير علاقاتها الاقتصادية معها بشكل جوهري.
ويسارع جونسون، الآن، الخطى من أجل تحقيق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي قبل نهاية أكتوبر، ويواجه في المرحلة الراهنة مشاكل جدية تتعلق بخيار «بريكست» دون اتفاق، وهو ما من شأنه أن يؤثر في علاقات المملكة المتحدة بجمهورية أيرلندا، بسبب المشاكل التي يمكن أن تنجم عن الحدود الجمركية بين هذه الأخيرة مع أيرلندا الشمالية المقاطعة البريطانية.
وبموازاة هذا التخبط البريطاني، ما زال كثير من الأوروبيين يعتقدون أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق متوازن مع البريطانيين يضمن المصالح المشتركة للجانبين، من منطلق أن هناك دولاً أوروبية عديدة في مقدمتها ألمانيا، تعتمد في اقتصادها بشكل كبير على تصدير منتجاتها نحو المملكة المتحدة.
ويمكننا أن نخلص في الأخير إلى أن هناك معطيات كثيرة تشير إلى أن جونسون، وقع فعلاً في فخاخ ترامب، الذي يريد أن يستثمر اندفاع نسخته البريطانية لتحقيق أهدافه في إعادة إخضاع أوروبا اقتصادياً، من أجل فرض حصار شامل على الصين.
وقد تكمن المفارقة الكبرى في كل ما يحدث بشأن مستقبل علاقات بريطانيا بأمريكا وأوروبا، في أن قسماً كبيراً من النخبة البريطانية شحنت شعبها من أجل الدفاع عن سيادته المخترقة من قبل أوروبا، لكن تطورات الأحداث بدأت تكشف تدريجياً أن المملكة المتحدة أصبحت مهددة بالسقوط في خدعة ترامب؛ صاحب شعار: «أمريكا أولاً».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"