حتى لا تكون مفاوضات عبثية

05:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحركة المتسارعة لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري نحو رام الله وتل أبيب وعمّان، في الأسابيع القليلة الماضية، أنبأت عزم إدارته على دفع استئناف المفاوضات المتوقفة منذ أربعة أعوام . لقد قام بست جولات لهذا الغرض لم تحظ جميعها بتغطية إعلامية نشطة، نظراً للانشغال العام بمجريات الأحداث الساخنة في مصر وسوريا والعراق .

الرغبة الأمريكية بمعاودة التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي مفهومة، فالتفاوض من شأنه صرف الأنظار عن أمور واقعية أكثر أهمية، مثل التعاون الاستراتيجي المطرد مع تل أبيب، رغم كل ما قيل عن فتور بين نتنياهو وأوباما، ولعل هذا الفتور قائم على صعيد شخصي، لكن، متى كانت العلاقات الشخصية تحكم العلاقات بين واشنطن وحليفتها دولة الاحتلال؟ زيارة أوباما إلى تل أبيب أواخر مارس/آذار الماضي ومخاطبته الرأي العام هناك مباشرة، دلت على أن الإدارة الديمقراطية عازمة على تحريك عجلة التفاوض . . وهي العجلة التي توقفت إبان ولاية أوباما الأولى التي استهلها صاحبها بإطلاق آمال كبيرة وحتى تعهدات بإحلال سلام ظل بعيداً ومستعصياً لأسباب تنكرها الإدارة، تتمثل في الشهية الصهيونية المفتوحة على التوسع في أراضي الغير، واستمرار التنكيل بالشعب الرازح تحت الاحتلال .

تقابل هذه الرغبة، رغبة مماثلة لدى الجانب الصهيوني وإن بأهداف غير متطابقة مع هدف الإدارة الأمريكية، وقد جرى التعبير عنها في تعيين تسيبي ليفني وزيرة الخارجية السابقة في حكومة أولمرت، وزيرة مولجة بشؤون التفاوض، رغم ما بين الوزيرة ورئيس الحكومة من تنافس يصل إلى حد التباغض .

الاتفاق على استئناف التفاوض أعلن عنه كيري في عمّان مساء الخميس 19 يوليو/تموز الجاري بقوله للصحافيين: يسرني أن أعلن أننا توصلنا إلى اتفاق يحدد قاعدة لاستئناف مفاوضات الوضع النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين . . لم يكشف رئيس الدبلوماسية الأمريكية عن فحوى هذا الاتفاق الذي تم بعد مباحثات ماراثونية مع صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين في العاصمة الأردنية، ويفترض أن يتم الكشف من الجانب الفلسطيني عن هذه الخطوط الأساسية لهذا الاتفاق، فحكومة الاحتلال بارعة في الاستفادة من أي غموض وتسارع إلى تحويله إلى نقطة لمصلحتها، علاوة على أنها لا تتردد في دفع الأمور نحو التفاوض على ما قد يكون قد تم الاتفاق عليه! بغية إغراق الجانب الآخر واستنزافه في الشكليات والمقدمات والأطر الناظمة للتفاوض، بحيث يتعذر الانتقال إلى بحث الجوانب الجوهرية، ويكون الهدف الإعلامي في الأثناء قد تحقق: فها هو التفاوض يُستأنف، وها هي مسيرة السلام تتقدم، فلينصرف العالم مطمئناً إلى سلامة المسيرة للانشغال بأمور أخرى .

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الجانب الفلسطيني رغم شغفه الأصيل بالتفاوض، فإنه تعرض هذه المرة لضغوط أمريكية وأوروبية وعربية، ومعلوم أن السلطة تعتمد في ميزانيتها العامة على تقديمات خارجية، وقد التقى وفد وزاري عربي بجون كيري في عمّان منتصف يوليو، وجرى الاتفاق على مبدأ تبادل الأراضي . . ومن الغريب أن هذه النقطة هي التي استحوذت على الاهتمام، بدلاً من الحديث عن مرجعية المفاوضات وأمدها الزمني والرعاية الدولية لها، وضرورة وقف الاستيطان . وأمام هذه الضغوط تلقت القيادة الفلسطينية ضغوطاً أخرى من الفصائل الفلسطينية التي أجمع معظمها على رفض التفاوض في ظل الظروف القائمة ومن دون ضمانات كافية وجدية، لكن القيادة دأبت على الاستجابة للضغوط الخارجية بعد إبداء قدر من التمنّع، وعلى الاستخفاف بالضغوط من الداخل .

في واقع الأمر، فإن القيادة في رام الله لم تترك لنفسها من خيار سوى التفاوض، وذلك مع إسكات صوت الشارع والحؤول دون قيام احتجاجات شعبية واسعة ضد الاحتلال وحتى ضد جدار الضم والتوسع، ما أصاب القضية الفلسطينية بالانطفاء، وقد تعزز ذلك في ظروف موجة الربيع العربي حيث نجحت القيادة في تفادي بزوغ ربيع فلسطيني ضد الاحتلال، وفي ظل هذه الظروف السالبة لا يبقى راهناً بالفعل سوى الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل تصليب موقفه، وعدم الوقوع في الحفرة التي حفرها الاحتلال بجعل التفاوض للتفاوض فقط، مع ما يتخلل ذلك من تبديد للوقت، وصرف الأنظار عن التغول الاستيطاني وخاصة في القدس، وعن التنكيل بالأسرى وإضافة أعداد جديدة إليهم، ومواصلة بناء الجدار . ذلك أن العدو يفاوض فيما هو يواصل فعلاً وواقعاً حربه على الأرض، وعلى الوجود الوطني الفلسطيني وعلى مصادر المياه وسائر مصادر الحياة، ومن العبث، إن لم يكن ما هو أسوأ منه، الانغماس في التفاوض وتجاهل هذه الحرب المستمرة التي تسحب الأرض من تحت أقدام المتفاوضين .

يقول المرء بذلك دون إغفال المسؤولية المترتبة على بقية الجسم السياسي الفلسطيني، فقد رفض من رفض استئناف التفاوض لأسباب وجيهة، غير أنه ليس بالرفض وحده تتعدل الموازين ويستقيم المسار، فإذا كان هذا الرفض جاداً وليس لغايات التمايز السياسي والإعلامي فقط، فمن أبسط واجبات هذه الفصائل ومعها قوى المجتمع الشبابية والحية، المبادرة إلى إطلاق حملة احتجاجات ليس على استئناف التفاوض بالضرورة، بل على وجود الاحتلال العسكري والاستيطاني برمته . فعلى مدى أربعين عاماً ونيف طرح اليسار الفلسطيني نفسه على أنه البديل الثوري، فإذا بحركة حماس هي التي تطرح نفسها على الأرض وفي الواقع بديلاً جهادياً، ولذلك، فالمطلوب من اليسار أن يكف عن خطاباته، وليُصعّدْ قيادات شابة بصورة ديمقراطية، من أجل منح أمل حقيقي للشعب والقضية والتوقف عن الدوران في حلقة مقيتة فارغة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"