حصاد «الاتحاد من أجل المتوسط»

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

شكلت فكرة التعاون المنطلق من عناصر «الحضارة المتوسطية»، إحدى أهم الأسس التي قام عليها العمل السياسي بين الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وقد حاول العديد من المفكرين من جنوب أوروبا وشمال إفريقيا تجاوز الاختلافات الدينية والحضارية والعرقية التي أرخت بظلالها على العلاقات التاريخية بين ضفتي المتوسط، من خلال التركيز على المنطلقات الفكرية والثقافية التي تربط بين الشعوب المتوسطية التي تلاقت وتمازجت فيما بينها، من خلال تأسيس إمبراطوريات وممالك بسطت نفوذها على الأغلبية الساحقة من الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، لاسيما في سياق الحضارتين الرومانية والعربية الإسلامية.
وبعد مرور أكثر من عقدين على تدشين مسار برشلونة من أجل دعم التعاون بين أوروبا ودول جنوب المتوسط سنة 1995، وانقضاء أكثر من 10 سنوات على إطلاق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي لمبادرته المتعلقة بتأسيس «الاتحاد من أجل المتوسط» في شهر يوليو/تموز سنة 2008، تُطرح الآن أسئلة كثيرة بشأن حصاد هذا التجمع السياسي الدولي، الذي شغل في بداية تأسيسه اهتمام معظم الفاعلين الدوليين على المستويين العربي والأوروبي، نظراً لحاجة شعوب البحر الأبيض المتوسط للتعاون في كافة المجالات من أجل مواجهة ملفات سياسية واقتصادية وإنسانية ثقيلة وفي مقدمتها الصراع العربي - «الإسرائيلي» والهجرة غير الشرعية من الجنوب نحو دول الساحل الأوروبي.
يرى المراقبون الدوليون أن فكرة «الاتحاد المتوسطي» التي جرى تعديلها من طرف الرئيس ساركوزي لتشمل مختلف دول الاتحاد الأوروبي لطمأنة الشركاء الأوروبيين، ولتتحول بذلك إلى «الاتحاد من أجل المتوسط» الذي يضم دولاً غير مطلة على البحر الأبيض المتوسط مثل ألمانيا في الشمال وموريتانيا في الجنوب، تظل فكرة جميلة وجذابة، ولكنها شبه مستحيلة التنفيذ على أرض الميدان؛ حيث بدأت مع انطلاق مسار برشلونة في التسعينات من القرن الماضي، البوادر الأولى لإخفاق هذه الفكرة بعد مقتل الوزير الأول «الإسرائيلي» إسحاق رابين، الذي كان يمثل بالنسبة للمجتمع الدولي إحدى الركائز الأساسية لإمكانية تحقيق سلام دائم بين «إسرائيل» وجيرانها العرب في منطقة الشرق الأوسط.
وتحولت هذه الفكرة مع مرور الوقت إلى تجمع سياسي افتراضي من أجل تنشيط العلاقات العامة بين دول أوروبا وباقي دول جنوب المتوسط وبخاصة بعد وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في «إسرائيل» وتعثر كل مبادرات السلام في المنطقة وإقدام ترامب على الاعتراف بالقدس عاصمة ل«إسرائيل»، وواصلت الفكرة انحدارها وإبحارها في محيط العبث والنسيان بعد اندلاع الأزمة السورية وسقوط نظام القذافي في ليبيا إضافة إلى التحولات السياسية الكبرى التي عاشتها ومازالت تعيشها معظم دول جنوب المتوسط.
وبالتالي فإنه وباستثناء مشروع تحلية مياه البحر في غزة الذي مازال يشهد الكثير من الصعوبات ومشروع الجامعة الأوروبية المتوسطية بمدينة فاس في المملكة المغربية، فإن الاتحاد من أجل المتوسط لا يملك برنامجاً تنموياً واضحاً أو أجندة سياسية حقيقية وواقعية قادرة على تطوير التعاون وعلى تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي بين دول الشمال والجنوب، لسببين رئيسيين يتعلق أولهما بالتحفظات التي تسجلها دول أوروبا الشرقية بشأن التقارب مع الدول العربية المتوسطية من منطلق قناعتها أن الحوار المتوسطي يمثل شأناً داخلياً بالنسبة لدول أوروبا الجنوبية وفي مقدمتها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ويتصل السبب الثاني بالتحفظات التي تبديها الدول العربية بشأن كل مشروع دولي أو إقليمي يمكنه أن يكون بوابة للتطبيع المجاني مع «إسرائيل».
وفضلاً على كل العوائق والصعوبات التي مازال يواجهها مشروع الاتحاد من أجل المتوسط والمتعلقة في المقام الأول بتضارب الأجندات السياسية بين الدول الأوروبية الكبرى، فإن انشغال دول الاتحاد الأوروبي بملف البريكست وبصعود اليمين الشعبوي في معظم دول الضفة الشمالية من المتوسط، يجعل الدول الأوروبية تنكفئ في هذه المرحلة على نفسها لمواجهة التحديات الجدية التي تعيشها مؤسسات الاتحاد في بروكسل. كما أن الاختلافات الجيوسياسية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تجعل الاتحاد من أجل المتوسط مرشحاً خلال السنوات المقبلة إلى الانحصار نحو تجمع بين دول الجهة الغربية لضفتي المتوسط، لأن الجهة الشرقية تمثل فضاء جيوسياسياً أمريكياً وبريطانيّاً وتحظى فيه روسيا بحضور جيوإستراتيجي لافت وبخاصة بعد اندلاع الأزمة السورية.
وقد يكون البديل الأكثر قرباً من الواقع للمشروع الفرنسي المتعلق بالاتحاد المتوسطي، هو التجمع التشاوري - الأمني الذي جرى تأسيسه في بداية التسعينات في سياق ما بات يعرف بحوار (5 + 5) والذي يجمع دول المغرب العربي الكبير( موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) ودول من أوروبا الجنوبية وهي البرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا، حوار ينسجم إلى حد بعيد مع حاجة دول جنوب أوروبا إلى تأمين جوارها الإقليمي نظراً للصلات التاريخية التي تربط هذه الدول بمستعمراتها السابقة في شمال إفريقيا. ومن ثم فإن شرق المتوسط الذي اُكتشفت فيه مؤخراً احتياطات كبرى من الطاقة، هو أكبر بكثير من أن يكون مجرد ملف للدعاية والحذلقة السياسية بين أيدي دول الضفة الشمالية للمتوسط وعلى رأسها فرنسا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"