حوار العصر ومسألة دور مصر

02:50 صباحا
قراءة 6 دقائق

لا أكاد أرى موضوعاً يسيطر على الساحة العربية مثلما هو الأمر بالنسبة للحديث المتكرر عن دور مصر وتقدمه أو تراجعه، ولا عجب في ذلك فمصر مرصودة دائماً لأنها الدولة المحورية المركزية في العالم العربي فضلاً عن أنها الدولة التي قادت المنطقة في الحروب منذ فجر التاريخ وكانت الرائدة في السلام والتنوير والعلم والثقافة، ويهمني هنا أن أناقش بشكلٍ موضوعي طبيعة ما يترتب حول الدور المصري وانكماشه، خصوصاً أنني أرى مثل هذا الطرح أمراً تعوزه الدقة كما أنه يفتقر إلى الفهم الصحيح لمعنى الدور من الناحيتين الجيوبولتيكية والثقافية البشرية، فمصر بلدٌ عجوز يحمل على كاهله وقر السنين ولديه تراكم ثقافي وحضاري تحسده عليه أمم الأرض وشعوب العالم، بل إن اسم أم الدنيا والمحروسة والكنانة كلها مسمياتٌ أطلقها الغير على هذه الأرض المباركة التي كلم فوقها موسى ربه، وعبرت عليها رحلة العائلة المقدسة حتى أضاءت ربوعها بنور الإسلام، إنها الدولة التي تكرر اسمها كثيراً في الكتب المقدسة، ولا عجب فهي مصر التي اكتشفت معنى التوحيد واستعدت للحياة الثانية بالمقابر والمعابد والأهرامات.

وقضية الدور بالنسبة لمصر ليست قضية جديدة ولا فكرة عابرة، إنها أبعد من ذلك وأعمق يعرفها الهكسوس والتتار والفرنجة الذين نسميهم خطأ بالصليبيين، وهي مصر حطين وعين جالوت وأكتوبر 73 وقبلهم وبينهم وبعدهم عشرات من الفتوحات الظافرة والمواقف المشرِّفة، وهي أيضاً مصر التي تفرَّغ شعبها لصناعة الحضارات منذ فجر التاريخ المكتوب كما أنها هي التي قادت التنوير في القرن التاسع عشر والتحرير في القرن العشرين، لذلك يتطلع الجميع إلى دورها في القرن الحادي والعشرين، ولعلي هنا أطرح بعض النقاط المتصلة بقضية الدور دولياً وإقليمياً بشكلٍ عام، ثم انتقل من ذلك إلى تطبيق رؤيتنا على الواقع المصري الراهن وما يحيط به من ظروف وما يعتريه من تحولات، وأوجز ذلك في النقاط الآتية:

* أولاً: إن مسألة الدور ليست بدعة استراتيجية أو نوعاً من الفانتازيا السياسية، وأنا أندهش كثيراً عندما أقرأ لبعض الكتاب المصريين والعرب عندما يتحدثون عن موضوع الدور بشيءٍ من الرفض بل والكراهية كما لو كان أمراً إضافياً يجري إقحامه على الحياة السياسية المعاصرة والعلاقات الدولية لعالم اليوم، ويربط أعداء مسألة الدور المصري بين رؤاهم الناقصة والعصر الناصري تحديداً، ويرون فيه المرجعية الوحيدة لقضية الدور التي يرفضونها وهم يغفلون عمداً أو سهواً شخصية مصر التاريخية فهي بلدٌ بضاعته الدور الإقليمي، ألم نقل كثيراً من قبل إنها دولة تبيع سياسة وتشتري اقتصاداً؟

ولا زلت أتذكر ذات يوم أنني كنت في الخارجية البريطانية على موعدٍ مع المسؤول عن قسم الشرق الأوسط، فإذا به يقول لي إنه سعيدٌ للقائي لسبب إضافي هو أنه سوف يستقبل بعدي بعض مندوبي دول عربية أخرى وعندما يقول لهم إنني كنت مع عضو من السفارة المصرية فإن ذلك سوف يعزز من قوة حديثي إليهم وحواري معهم، ولست أنسى أبداً أن بعض الشركات الدولية خصوصاً في مجال التسليح كانت تتمنى دائماً أن توقِّع العقد الأول في الشرق الأوسط مع الدولة المصرية، لأن ذلك سوف يجذب بالضرورة دولاً أخرى تستأنس بموقف الشقيقة الكبرى وتمضي على درب الدولة النموذج، لذلك فإن الحديث المغلوط عن عدم أهمية الدور المصري الخارجي هو حديثٌ يفتقر إلى الموضوعية والعلمية في آنٍ واحد.

* ثانياً: إن مراجعة أهمية الدور المصري في المنطقة خلال السنوات العشرين الأخيرة سوف يؤكد صواب ما نذهب إليه لأن الدور المصري كما قلت في مناسبات كثيرة شمسٌ لا تغيب، قد تحجبها بعض الغيوم أحياناً وتغطيها سحبُ صيفٍ أحياناً أخرى ولكنها تظل ساطعةً أبداً لا تحتجب، ولعلي أذكِّر البعض بعددٍ من الإنجازات الأخيرة للدولة النموذج صاحبة الدور الذي قد يغيِّر أدواته ولكنه لا يختفي تماماً، ألم تحصل مصر على جائزة نوبل أربع مرات في العقود الثلاثة الأخيرة لكلٍ من السادات ومحفوظ وزويل والبرادعي؟ ألم تبن مصر الأوبرا مرة ثانية بعد حريقها، لأنها صاحبة الإشعاع الثقافي والسبق الفني في المنطقة؟ ألم تحفر مصر مترو الأنفاق بمراحله المتتالية في عاصمتها للمرة الأولى في الشرق الأوسط؟ ألم يتقدم بطرس غالي لأرفع منصبٍ دولي؟ ألم تعد مصر مكتبة الإسكندرية منار المعرفة على شاطئ المتوسط وبعثت دورها من جديد؟ هذه نماذج عابرة ضمن عشرات الأمثلة لحيوية الدور المصري رغم الأسطوانة المشروخة عن تراجعه وانكماشه.

* ثالثاً: إن الذين يتحدثون عن تواري الدور المصري إنما يربطون ذلك باتفاقيتي كامب ديفيد والسلام المصرية الإسرائيلية، وهم يفسِّرون كل أحداث المنطقة وحقائق الحياة بذلك الحدث الذي مضت عليه الآن قرابة ثلاثين عاماً، وهم ينظرون إلى التوجه المصري نحو السلام والذي أصبحت تشاركها فيه كل الدول العربية بغير استثناء ويربط دعاة هذا الرأي بين ريادة مصر لطريق التسوية السلمية والاستقرار الإقليمي وبين حديثهم الممل عن عدم جدوى الدور المصري وتراجع أهميته، بينما مصر التي منيت بالهزيمة عام 1967 وبدأت سنوات النكسة التي لا تزال آثارها باقية على الأرض العربية حتى الآن، هي ذاتها مصر التي عانت من موجات الانتقاد التي وصلت إلى حد الشماتة أحياناً، وعندما انتصرت في أكتوبر 1973 لم يتنبه الكثيرون إلى ذلك الجهد العبقري الذي قام به الجيش المصري لعبور أكبر مانعٍ مائي وتحطيم خط بارليف وغرس العلم المصري فوق أرض سيناء، فمصر موضع انتقادٍ في الحرب ولوم على السلام!

* رابعاً: إن الحديث عن وراثة الدور المصري واحتلال بدائل أخرى له هو حديثٌ يفتقر إلى الصدقية والدقة، لأن الدور ليس منحة من أحد ولكنه معطى تاريخياً وجغرافياً لا يمكن العبث به، وهو أيضاً ليس ثوباً نرتديه حين نشاء ويخلعه عنا من يريد، فالدور أكبر وأهم وأعظم من كل ذلك ومن يقول إن إيران الثورة الإسلامية تحاول أن ترث الدور المصري في المنطقة مخطئ، لأن إيران إذا امتلكت التأثير الديني فهي لا تملك الأداة الثقافية التي اعتمدتها مصر في القرنين الأخيرين، وإذا امتلكت طهران قوة المال تشتري به الأعوان والخلصاء وتجند المريدين والأصدقاء، إلا أن ذلك لا ينهض وحده ثمناً لدورٍ يدوم أو مكانة إقليمية تستمر، وليتذكر الجميع أن الاتحاد السوفييتي السابق قد دخل المنطقة من البوابة المصرية في العصر الناصري، وخرج من نفس البوابة بقرارٍ من الرئيس السادات، كما أن عام 1974 كان هو عام التوقيت العربي لقبول النفوذ الأمريكي في المنطقة، عندما زار الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون مصر إيذاناً بطي صفحة الماضي وتطلعاً لعلاقاتٍ أفضل مع الدول العربية، فمصر هي البوابة التي يدخل منها من يريد الوصول إلى الشرق الأوسط ويخرج منها من تلفظه شعوبه أو نظمه، كما إن مصر هي قاعدة الأحلام الإمبراطورية في الشرق سعى إليها الإسكندر الأكبر، ووفد بعده بعدة قرون نابليون بونابرت وكلاهما مدفوعٌ بأحلامٍ عريضة وآمالٍ واسعة في إمبراطورية شرقية كبرى، وبالمناسبة فإن مصر لا ينبغي أن تضيق بغيرها أو تتبرم من دورٍ يسعى إليه شقيقٌ لها صغيراً كان أو كبيراً فالساحة مفتوحةٌ للجميع ولكل دولةٍ تجتهد نصيبٌ ليس مقتطعاً من سواها ولا مخصوماً من غيرها.

* خامساً: إن خفوت الدور المصري أحياناً هو قرارٌ إرادي تقوم به الدولة المصرية بسبب ظروفها الداخلية أو مشكلاتها الإقليمية ولكنه لا يرتب أبداً قيداً على المستقبل أو مصادرةً على المطلوب، إذ أن استئناف الدور لا يحتاج لأكثر من إرادة سياسية وأدواتٍ بديلة وديناميات متحركة، و أنا أدعو هنا إلى أن يكون الدور الإقليمي لمصر دائم الاشتباك في قضايا المنطقة، فهو طرفٌ في مشكلة الملف النووي الإيراني، وطرفٌ في الدور السياسي التركي، وطرفٌ أساس في العلاقات العربية الإسرائيلية، فضلاً عن مساحاتٍ أخرى للحركة أدعو لاقتحامها بشدة وأعني بها الدور الإفريقي لمصر، والدور الإسلامي أيضاً وكلاهما يفتح شهية الغرب والولايات المتحدة الأمريكية إذا تعاملت مصر في هذين الملفين بدلاً من أن يحتكر الصراع العربي الإسرائيلي دور القاهرة ويختزل الجهد المصري فيه، ولعل الدور المصري في إفريقيا خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي هو خير شاهدٍ على ذلك، ونحن جميعاً نتطلع إلى يومٍ تعود فيه جذوة الحماس المصري لدورها الإفريقي والإسلامي مثلما هو الأمر لدورها العربي لأن العائد في النهاية ليس سياسياً فقط ولكن له مردوده الاقتصادي الكبير والثقافي الواضح، وهاهي دولة جنوب إفريقيا بعد سقوط سياسة الفصل العنصري الأبارتيد وعودة الدولة الجديدة إلى الساحة الإفريقية والدولية قد خسرت مصر أمامها استضافة المونديال ومقر البرلمان الإفريقي وتصارع معها الآن على مقعدٍ دائم في مجلس الأمن عندما يحين وقت المواجهة، لذلك لا أريد لأحدٍ أن يتصور ولو للحظة أن مسألة الدور الإقليمي هي مجرد شعار سياسي أو مخرج وطني من أزماتٍ داخلية لأنها أكبر من ذلك وأهم وأعظم.

.. أيها السادة هذه ملاحظاتٌ خمس أردنا منها إعادة الثقة إلى دور مصر النيل والأهرامات، مصر المساجد والكنائس، مصر الرواد الكبار من المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والفنانين، مصر التي استضافت رواد المسرح والصحافة والسينما عندما قدموا إليها من الشام الشقيق بلا حساسية أو قلقٍ أو اعتراض، مصر الموئل والملاذ، مصر الوطن والشعب، مصر الحضارة والمنارة والضياء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"