خلاص سوريا بالحل العربي

05:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا خلاص لسوريا في الأمد المنظور على الأقل بغير حل عربي . النظام في دمشق يعتنق عقيدة عروبية معلنة، وعموم السوريين عروبيون يعتبرون القضايا العربية قضاياهم الوطنية . لا معنى إذن لرفع شعارات ضد التدخل الخارجي، والمقصود به الاهتمام العربي لا التدخل الأجنبي . علماً أن التدخل الأخير غير قابل للطعن لمجرد أنه أجنبي، وإلا لكانت دول العالم بغير نادٍ يجمعها ومن دون ميثاق دولي تحتكم إليه، والمقصود هنا منظمة الأمم المتحدة نادي الأمم، وميثاقها . ولو لم يكن الأمر على هذه السوية لكانت قوات حفظ السلام مطعوناً فيها، ولما تم قبول لبنان وسوريا بقوات اليونفيل في جنوب لبنان مثلا . ولما كانت سوريا شاركت في الحشد الدولي ضد النظام العراقي السابق .

الذهاب بعيداً في رفض التدخل الأحنبي وتأويله على أنه بالمطلق مساس بالسيادة، قد ينتهي بأصحابه إلى رفض وجود مراسلين أجانب (ثم مراسلين خارجيين . .عرب) وبعدئذ رفض وجود الصليب الأحمر ومنظمات الإغاثة، وهو ما حدث في سوريا وضاعف محنة شعبها ومأزق نظامها .

أياً كانت الملاحظات على الدور العربي، فهو أفضل بما لا يقاس من استمرار المقتلة مفتوحة من دون ضابط لها . المبادرة العربية التي رفضتها دمشق ثم طلبت تعديلها ثم وافقت عليها مع التملص من تنفيذها، وقد استغرق ذلك نحو شهرين ووقوع زهاء ألف ضحية . . هذه المبادرة لم ترمِ في وجهتها الرئيسية سوى إلى تطبيع الحياة السياسية والعامة: جعلها طبيعية، بتحريم وتجريم اللجوء إلى العنف من أي مصدر أتى، وإعادة تواصل هذا البلد مع العالم، بما يؤدي حُكماً إلى رفع أية عقوبات وإنقاذ الاقتصاد الوطني من وهدته الثقيلة، وعصرنة النظام بحيث يستمد شرعيته من تمثيل الناس وحمايتهم لا الفتك بهم، وإنكار وجود أي معارضة والتشكيك بوطنيتها لمجرد وجودها في الخارج، علماً أن المعارضين في الخارج هم في حكم المنفيين .

ما حدث ويحدث في حمص وحماة ودرعا، بغير تغافل عما حدث ويحدث في حواضر وأرياف أخرى، لا يرتضي به إنسان سويّ عقلاً وضميراً . ولو كان وَقَع في أي مكان في العالم، وبحق أي شعب أو مجموعة بشرية لكان لقي أعلى درجات الاستهجان، فكيف وأن الضحايا هم إخوة وأشقاء لبقية العرب، والتنازع السياسي مهما احتد لا يسوغ ارتكاب ما يُرتكب بحق المدنيين والأحياء السكنية والمشافي ودور العبادة، ومنح أشقياء ومتعطلين رخصة القتل العشوائي لأبناء شعبهم مقابل أجر معلوم .

يدرك المرء أن المبادرة العربية حتى لو طبقت بحذافيرها، لن توفر حلاً فورياً للأزمة الطاحنة . لكنها في أضعف الأحوال تفتح الطريق وتهيئ الأجواء أمام نزاع سياسي سلمي ومدني، وتسمح ببلسمة الجراح النازفة والغائرة، وتدفع نحو بناء حكم القانون تدريجياً، وتعيد ربط سوريا بالعالم الخارجي ابتداء من المحيط والعمق العربيين، فلا يكفي رفع شعار العروبة مع إدارة الظهر للعالم العربي .

في القناعة أن أي تشدد عربي حيال الأزمة، لن يقطع الطريق على المبادرة ولن يقوضها، بل إنه يزيد من الحاجة إلى تطبيقها . وليت الاطراف المتنازعة تتوصل في ما بينها إلى حلول شافية، تكون أفضل من المبادرة العربية وأكثر اقتراباً من المصالح الوطنية العليا لسوريا والسوريين . غير أن ذلك غير متاح بعد سقوط أكثر من 3500 قتيل، عدا الجرحى والمصابين، وهي حصيلة بشرية ثمينة جداً لم يخسرها هذا البلد في أية مواجهة أو حرب خاضها، أو فرضت عليه منذ الاستقلال في عام 1946 . يحدث ذلك في زمن تتنافس فيه دول ومجتمعات على السعي لإنقاذ مواطن واحد من مواطنيها حين يقع عليه ضُرّ، وعلى الإعلاء من شأن الحق في الحياة كحق أوّلي ومقدس .

هناك الآن من يعتقد وله الحق في هذا أن المبادرة العربية قد تجاوزتها الأحداث، وذلك مع إنكار النظام لوجود أي معارضة، ومع مطالبة المعارضة بإسقاط النظام، غير أن المبادرة ليست مجرد بنود ونصوص فهي أولاً وقبل كل شيء ذات روحية مدنية، وخيار سلمي يدفع نحو حل توافقي تدريجي يضمن للنظام أن يتجدد، وتتيح للمعارضة فرصة المشاركة السياسية الفعلية، وذلك ليس وضعاً عجائبياً، فغالبية دول العالم تأخذ به وتحتسبه من طبيعة الأشياء ومنطق الأمور . غير أن عبقرية ما في بلاد الأمويين أشاحت بأبصارها عما تتوافق عليه غالبية الدول والمجتمعات، فكانت النتيجة ما نشهده منذ ثمانية شهور، علاوة على المسكوت عنه مما جرى قبل ذلك، وما هو في طي الكتمان حتى تاريخه من أداء سلطوي رفيع .

يحتاج السوريون، كما الحكم القائم إلى احتضان عربي، إلى ضمانات عربية، من أجل الخروج من المحنة، بيد أن ما يؤسف له أن هناك من لا يعترف بعد بوجود هذه المحنة، وينكر الحاجة إلى الحلول، وينظر باستخفاف شديد إلى العالم العربي بكل ما فيه، وهذا بحد ذاته وجه من وجوه الأزمة، وقد لا يطول الوقت قبل أن يعترف البعض بما تقدّم ولكن بعد فوات الأوان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"