خمسون عاماً على منتدى دافوس

02:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزّي

جرت مياه كثيرة في العالم منذ أن أسس الاقتصادي الألماني كلاوس شواب «منتدى الإدارة الأوروبي» في عام 1971، والذي سيحمل اسم «المنتدى الاقتصادي العالمي» ابتداء من عام 1987 نظراً لنجاحه وتحوله إلى ظاهرة عالمية، وليست أوروبية فحسب. وقتها كان النظام العالمي ثنائي - القطبية منشطراً بين اقتصادين، اشتراكي موجه في ما كان يسمى «المعسكر الشيوعي»، وليبرالي حر في ما كان يطلق عليه «العالم الحر»، وكان عدد سكان العالم لا يزيد على 3.7 مليار نسمة، ليتخطى 7.7 مليار اليوم، وكانت الصين تتخبط في حبائل الاقتصاد الشيوعي قبل أن تغدو، في يومنا هذا، ثاني اقتصاد عالمي، حيث زادت حصتها فيه نحو خمسة أضعاف. وكان المنتدى وقتها يضم بضع مئات من الشخصيات الملتزمة ب «تحسين حالة العالم»، ليبلغ عددها اليوم أكثر من ثلاثة آلاف شخصية تضم مشاهير وفنانين واقتصاديين وصحفيين وسياسيين وزعماء، وغيرهم من هذا المستوى يجتمعون في منتجع التزلج الجميل في شرقي سويسرا في يناير / كانون الثاني من كل عام. وكان المنتدى، ولا يزال، قريباً من عوالم الشهرة والسلطة والمال على الرغم من التزامه المعلن إحلال السلام والازدهار الدوليين، وهي مهمة لم ينجح في تحقيقها إلى اليوم على الرغم من «عبقرية شواب»، كما وصفته مجلة «الإيكونوميست» البريطانية. فالمشكلة تكمن في النظام الرأسمالي نفسه الذي خصصت له «الفورين أفيرز» عددها الأخير تحت عنوان «مستقبل الرأسمالية».
من مشاكل الرأسمالية هذا التفاوت الطبقي الصارخ الذي تتسبب به، فبحسب منظمة «أوكسفام» غير الحكومية، والتي عادة ما تنشر تقريرها عشية انعقاد منتدى دافوس، فإن أصحاب المليارات الذين يبلغ عددهم 2153 يملكون من الأموال ما يملكه ستون في المئة من شعوب العالم. وعلى الرغم من كل المحاولات لردم هذه الهوة السحيقة بين الأثرياء والفقراء، والتي تتسبب بالعديد من المشاكل الأمنية والاجتماعية وعدم الاستقرار وغيرها، فإن ثروات 1 في المئة من الأكثر ثراء في العالم تمثل أكثر من ضعف مجموع الثروات التي يملكها 6.9 مليار نسمة هم الأقل ثراء أي 92 في المئة من سكان العالم، من دون أن ننسى بالطبع مئات الملايين ممن يرزحون تحت عتبة الفقر التي تحددها الأمم المتحدة بدولارين في اليوم.
«الرأسمالية كما نعرفها ماتت»، هذا ما قاله مارك بنيوف أحد كبار رجال الأعمال في مجال التكنولوجيا الرقمية في محاضرة له بدافوس، ففي رأيه «هذا الهاجس المفرط لدينا بتعظيم أرباح حاملي الأسهم أدى إلى تفاوتات رهيبة وحالة طوارئ كونية». ويضيف عالم السياسة الأمريكي إيان بريمر بأن «المواطنين كانوا يدعمون الرأسمالية طالما أنها تقدم لهم فرص خلق الرساميل لأنفسهم وأولادهم، الأمر الذي لم يعد ممكناً اليوم»، وفي نهاية تحليله يخلص إلى أن «الرأسمالية لم تمت بعد، لكنها تواجه مشاكل جدية»، على الرغم من استنفار ممثلي الشركات العالمية الذين أتوا إلى دافوس لمحاولة إنقاذ هذا المريض الكبير الذي لم يُشفَ بعد من الأزمة المالية لعام 2008.
في العام المنصرم انتشرت الاحتجاجات الشعبية في العالم، من تشيلي إلى الشرق الأوسط، مروراً بفرنسا، تحمل مطالب اقتصادية واجتماعية وتنادي بتغيير الأنظمة الحاكمة، وإعادة النظر بالقوانين الليبرالية. لذلك كان من الطبيعي أن تسيطر أزمة الرأسمالية على نقاشات دافوس في الذكرى الخمسين لانطلاقته. لكن إشكالية المناخ والبيئة كانت الأكثر حضوراً هذه المرة، إذ افتتح المنتدى بكلمة للناشطة السويدية الشابة (17 عاماً) في مجال المناخ والبيئة جريتا تنبرج، والتي وسمتها «تايم ماجازين» بشخصية عام 2019. حضورها أضفى على صقيع دافوس الكثير من الدينامية والحرارة، وكانت الحجوزات المسبقة للاستماع إليها قد أقفلت قبل أسبوع من بدء المنتدى، ما يشي بتأثيرها الكبير ليس فقط في الشباب ولكن أيضاً في كل الشرائح العمرية.
حذرت تنبرج من أن «النار تأكل المنزل الذي نحيا فيه، وإذا لم نفعل شيئاً بخصوص الانبعاثات الكربونية، فإن الكارثة الكونية آتية لا محالة». وإضافة إلى تنبرج، دعا كلاوس شواب تسعة ناشطين شباب (صغيرتهم تبلغ من العمر 13 عاماً) تكلموا جميعاً، واتهموا أجيالنا الحالية بالإهمال، ودعوها إلى التبني الفوري لبرامج تواجه تلوث البحار ونفايات البلاستيك والنازحين المناخيين واختفاء الغابات وغيرها.
وقد رد الرئيس ترامب على تنبرج في خطاب يرفض فيه مقولات المناخ والبيئة التي يشكك بها: «يجب علينا رفض الأنبياء الأبديين للتعاسة وتوقعات الأبوكاليبس». على الأرجح أنه توجه لناخبيه عشية بداية إجراءات عزله في الكونجرس، وعلى بعد أشهر من الانتخابات الرئاسية، ممتدحاً «الإنتاج الكبير للطاقة الأحفورية والاستقلال الأمريكي في هذا المضمار»، ومؤكداً أنه لن يترك «اشتراكيين راديكاليين» يتعرضون لهذا القطاع المثمر.
ولم يذكر كلمة واحدة عن الطاقات المتجددة والنظيفة، بل ألقى خطاباً عدد فيه إنجازاته في مجال النمو، وخلق وظائف جديدة.
ردت تنبرج على ترامب، فرد عليها وزير ماليته، وهكذا كان ملتقى دافوس الخمسين ساحة جدال بين مراهقة ورئيس أقوى دولة في العالم، وبحسب تعليقات الصحافة العالمية كانت حجتها الأقوى والأكثر علمية وإنسانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"