خيارات إنسانية صعبة

01:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
أحدث تقدم الطب والعناية الصحية ثورة كبيرة ليس فقط في تمديد العمر المرتقب، وإنما في تحقيق نوعية حياة أفضل حتى في أفقر الدول. كانت جدوى الاستثمارات في الطب والصحة مرتفعة جداً بسبب التقدم التكنولوجي وتطور العلوم، كما بسبب ارتفاع الطلب على هذه الخدمات الأساسية في حياة الإنسان. وهنالك تعارض واقعي بين نوعية الحياة والعمر المرتقب؛ بحيث تضيع الأهداف الطبية أحياناً بين هذين الموضوعين المهمين. هل نضحي بنوعية العيش مقابل تمديد العمر عبر الفحوص الطبية والمخبرية؟ أو ربما نضحي ببعض السنوات كي يعيش الإنسان كل حياته بنوعية عالية؟ فطب الشيخوخة Geriatrics الذي يأخذ أهمية كبرى في عالمنا اليوم يهدف إلى جعل المسنين يعيشون ما تبقى من عمر بأفضل نوعية ممكنة. فالهدف ليس طول العمر، وإنما نوعية السنوات التي يعيشها المسن. تكمن المشكلة اليوم في أن المتخصصين في «طب الشيخوخة» ما زالوا قليلين جداً ربما لأنه يتطلب تكريساً مهنياً فريداً أو لأن العائد المالي أقل من المهن الطبية الأخرى كالجراحة التجميلية.
في الولايات المتحدة مثلاً، ارتفعت نسبة المسنين من السكان من 2% في سنة 1790 إلى 14% اليوم، ما يعطي لطب الشيخوخة أهمية كبرى تساهم في نفس الوقت في تحسين العناية بالمسنين وفي تخفيف الفاتورة الصحية الباهظة إلى حدود جديدة دنيا. في نفس الوقت هنالك فقط 300 متخرج سنوي في طب الشيخوخة في الولايات المتحدة أي أقل من عدد المتقاعدين في هذا التخصص، وأدنى مما هو مطلوب مع ارتفاع العمر المرتقب وأهمية توفير العناية الجيدة للمسنين. هذا الوضع يسري أيضاً على معظم الدول، التي يجب عليها توجيه كليات الطب كي تشجع التلامذة على التخصص في هذا القطاع المهم لكل المجتمعات.
يقول «أتول غاواندي» في كتابه عن الشيخوخة، الذي وضعته صحيفة «النيويورك تايمز» في طليعة المبيعات، إنه حتى سنة 1945 في الولايات المتحدة كانت أكثرية الوفيات تحصل في المنزل أي تحت رقابة العائلة واهتمامها. أما اليوم، فالوفيات المنزلية لا تتعدى 17% من المجموع، أي أن أكثرية الوفيات تحصل في المستشفيات ومراكز الرعاية أو في الأماكن المخصصة لاستقبال المسنين وأصحاب الحاجات الخاصة. هذا ينقل الاهتمام بالمسنين من المنزل وأفراد العائلة إلى مراكز العناية والأطباء والممرضين والمتخصصين في هذا العلم، الذي يزداد أهمية في عالمنا المرتكز على العمل الكثير للشباب والنساء لأسباب معيشية ومهنية طبيعية.
لا شك أن الطب الكلاسيكي العادي لم يتأقلم بعد مع واقع الشيخوخة كما يجب. فالطب يركز على تطويل حياة الإنسان لتأجيل الوفاة مهما كلف الأمر حتى من عذاب وأوجاع وتكلفة باهظة. فالموت لا يعد سقوطاً وفشلاً وإنما نهاية عادية للحياة على الأرض، وبالتالي النظر إليه بهذا الشكل يغير طبيعة العناية بالمسن في آخر أيام حياته. كل الديانات تؤكد حق الإنسان في العيش النوعي في كل حياته وخاصة في السنوات الأخيرة، ولا تعطي الحق للطب بالقيام بالتجارب الموجعة والمكلفة لمد العمر حتى لو كانت النيات حسنة وهي ربما كذلك في أكثر الأوقات.
من هنا يساهم الطب أحياناً وعملياً في تعذيب الإنسان في آخر أيامه دون قصد، عوض مساعدته على العيش بنوعية وسلام وهدوء خلال ما تبقى له من وقت. هكذا يترك المسن ضحية للتجارب الطبية والمخبرية والتكنولوجية كما للغرباء، فيدفع الثمن المادي كما المعنوي والنوعي.
في الحقيقة طبيعة بل دور الشيخوخة تغير. ففي الماضي كان للمسن دوره الكبير فهو الذي يحمي العادات والتقاليد والتاريخ، وبالتالي وجوده في المنزل «بركة» وكان يتمتع باحترام كبير من قبل أفراد المنزل؛ بل من قبل المجتمع ككل، يقفون عندما يدخل إلى مكان ما، ويتكلمون معه باحترام ومحبة ويصغون إلى نصائحه. كانت كلمته مسموعة حتى عندما كان يسأل المرء عن سنه، يبالغ به لفرض بعض الاحترام. أما اليوم فالعكس صحيح، أي يحاول المرء تصغير سنه، لأن احترام المسنين أصبح مفقوداً في عالمنا، والمسن أصبح في العديد من الأحيان عبئاً على المنزل وأفراده ليس فقط مالياً؛ بل من الناحية الإنسانية أي يقيد الحريات الاجتماعية. في الماضي، كان يكمل الإنسان حياته مع أفراد عائلته الذين يهتمون به حتى آخر أيامه. أما اليوم، فطبيعة الحياة وعمل الجميع فرضا على المسن أن يعيش بمفرده مع الممرض أو في مراكز العناية المتخصصة، وليس مع العائلة التي يعمل كل أفرادها لتأمين الدخل الكافي للأسرة. مساحة المنزل تدنت بسبب التكلفة والصيانة وبالتالي لم يعد ممكناً استقبال العدد نفسه. تغير دور المسن في المجتمعات أيضاً بسبب التطور التكنولوجي. عندما نريد معلومة ما، كان المجتمع يسأل المسن بسبب خبرته وحكمته ومعرفته. أما اليوم عندما نريد معلومة، نلجأ إلى الحاسوب والإنترنت أي إلى الذين يتقنون التقنيات الجديدة وهم في أكثريتهم من الشباب والشابات. لا شك أن امتداد العمر المرتقب غيّر طبيعة العلاقات في المجتمع، وخاصة بين الشاب والمسن ربما إلى غير رجعة. في الماضي، كان الأهل يشرفون على حياة الأولاد دون حدود زمنية، ويساهمون في تأمين الاستقرار والنصائح والحماية الاقتصادية ضمن الإمكانات المتاحة، وبالتالي يبقى عامل الارتباط قوياً حتى آخر الحياة. أما اليوم، فيخرج الشاب من المنزل بعد سن الرشد ليعيش مستقلاً في غرفة أو شقة ويواجه مخاطر الحياة وتحدياتها بمفرده.
في الماضي، كانت تنتقل الأصول من الأهل إلى الأولاد في آخر العمر أو بعد الوفاة بعد القيام بحصر الإرث وثم توزيعه عليهم. أما اليوم، فيجري نقل الأصول أو بعضها خلال الحياة ربما للتهرب من ضرائب الإرث الباهظة أو ربما بسبب الحاجة المادية التي تواجه الأولاد في بداية حياتهم المهنية المستقلة.غيرت العولمة طبيعة العلاقات بين الأجيال، وجعلت المادة تدخل أكثر في هذه العلاقات، ربما على حساب المحبة البريئة. فالعولمة وتحديات العمل فرضا على الأولاد، رجالاً ونساء، التركيز الكامل على التحديات؛ للنجاح في سوق العمل المعقدة والتنافسية. سوق العمل اليوم لا ترحم، خاصة وأن المنافسة أصبحت دولية وليست محلية فقط كما في الماضي. من ناحية أخرى، التغييرات الحاصلة منذ زمن ربما لا تزعج الشباب والمسنين؛ لأنها أعطت حرية أكبر للفريقين في زمن أصبح خلاله تقييد الحريات مكلفاً مادياً ونوعياً. بالرغم من هذا التغيير الكبير، لن تكون هنالك عودة إلى الماضي؛ لأن الحاضر لا يزعج وإن كان مكلفاً أكثر. أخيراً لا يمكن معالجة كل مشاكل المسن، إنما يمكن جعل تلك الفترة تمر بنوعية أفضل. فللمسن الحق في العيش بنوعية حتى لو كانت المدة قصيرة. النوعية أهم من عدد السنوات، وهذا ما يتفق عليه المجتمع علماً أن الطب والعلوم المخبرية والرعايات الاجتماعية والتكنولوجيا ربما لا يناسبها ذلك. فالمسن لا يخاف من الموت؛ بل من نوعية الحياة التي يعيشها قبلها، أي خسارة السمع والنظر وحرية التنقل وغيرها، التي تؤثر جذرياً في الرغبة في العيش. دور الطب الحديث يجب أن يركز على نوعية الحياة وتجنب العذاب قبل الموت، وليس على محاولة إطالة الحياة مهما كان الثمن، ومهما كانت التكلفة والنوعية.
لويس حبيقة
* باحث اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"