رأسمالية المحاسيب والهيمنة

04:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

في دراسة الأنماط الاقتصادية، تأتي رأسمالية المحاسيب لتصف شكلاً محدداً من الاقتصاد الذي يقوم على تبادل الخدمات والمنافع بين الطبقة السياسية الحاكمة ورجال الأعمال، حيث تمتلك الطبقة السياسية الحاكمة القدرة على تمرير تشريعات وقوانين تخدم سياقاً محدداً في الإنتاج، وفي عمليات الاستيراد والتصدير، وتنفيذ المشاريع العامة المتعلقة بالبنى التحتية للدولة، وهو ما يسمح لفئة من رجال الأعمال، تتصف بالقرب من الحلقة الضيقة للسلطة السياسية، وتدين بالولاء لها، بالاستفادة من التشريعات والقوانين، ومراكمة ثروات مالية ضخمة، تتشاركها مع النخبة السياسية.
هذا الشكل من أشكال الرأسمالية مرتبط عضوياً بطبيعة الدولة نفسها، فهو ملازم بدرجة كبيرة للدول التي لا تعرف عملية حقيقية من فصل السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، حيث تسيطر السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، ما يتيح لها التحكم بعملية إصدار التشريعات، وتمريرها إلى حيّز التنفيذ العملي، وهو ما يعني فعلياً انخراط فئات محسوبة على الغرفة التشريعية (البرلمان)، وأخرى محسوبة على الجهاز القضائي، في عملية تبادل المنافع، بالإضافة إلى مسؤولين كبار في المؤسسات المدنية المختلفة.
معظم الدول العربية لا تعرف فصلاً حقيقياً للسلطات الثلاث للدولة، وتقوم على وصاية مباشرة من السلطة السياسية على كامل السلطات، حتى أن السلطة التنفيذية نفسها، أي الحكومة، تصبح مجرد واجهة لمصالح الطبقة السياسية، ويمكن تحميلها في أي وقت من الأوقات التبعات الكارثية للسياسات، وإقالتها بوصفها المسؤولة عن رسم السياسات، بل ومحاكمة بعض رموزها إذا اقتضى الأمر، لكن من دون إحداث تغييرات جذرية، فالمصالح العميقة تبقى، في هذا النمط من أنماط الحكم، أقوى من الإدارات الحكومية المتخصصة بالرقابة والمساءلة والتدقيق.
الفارق بين الرأسمالية الليبرالية ورأسمالية الدولة (المحسوبية) يكمن في عدد من النقاط الجوهرية، فالرأسمالية الليبرالية تقوم على حرية الأسواق، المكفولة بالقانون، انطلاقاً من نظام حكم مبني على فصل السلطات الثلاث، وحصانة قوية للسلك القضائي، تجعله قادراً على المحاسبة، مع قدرة لإنفاذ القانون لدى الجهات الحكومية المسؤولة، بينما يقوم النمط الثاني على إشراف الدولة على العملية الاقتصادية، وبناء خططها، وتوجيه مسارات التنمية فيها، بعيداً عن القانون الرئيسي المحدد للسوق، الذي يقوم على العرض والطلب، وعلى حرية العمل الاقتصادي، وتقليل الاحتكار.
المسألة المُحدّدة للنمط الاقتصادي هي طريقة مراكمة فائض القيمة، ففي الرأسمالية الليبرالية تتم مراكمة فائض القيمة عبر عمليات إنتاج حقيقية، خاضعة لمعايير السوق التنافسية، وتمنح التنافسية في السوق للاقتصاد حيوية كبيرة، بالإضافة إلى التنظيم الذاتي، والاستثمار في الأبحاث التي من شأنها تطوير عمليات الإنتاج، وبالتالي صرف قسم من العوائد المالية في تطوير مختلف المسارات الإنتاجية، من تكنولوجيا، وأنظمة محاسبة، وقوانين إدارة، وغيرها، بينما تراكم رأسمالية المحاسيب ثروتها عبر الصفقات التي تحصل عليها، نتيجة قربها من الطبقة السياسية، بغض النظر عن آليات السوق، أو احتياجات الإشباع الاستهلاكية الحقيقية، ومن دون خوض في أي عملية تنافسية، وطبعاً من دون الخضوع لشرط الكفاءة في تنفيذ المشاريع.
ونتيجة لهذا النمط الاقتصادي القائم على الولاء والمحسوبية، تنشأ منظومة قيمية مطابقة له في المجتمع، حيث يصبح الفساد والإفساد سمتين جوهريتين من سمات المنظومة القيمية للمجتمع، وتتراجع في الوقت ذاته قيم العمل الحقيقية، وكل ما يرتبط بها من مؤسسات، وحتى النقابات المدافعة عن حقوق الطبقة العاملة تصبح مجرد ديكور، من دون أي فعالية تذكر على المستوى المطلبي، حيث يتم اختيار مسؤولي الجهات النقابية من المقربين من السلطة السياسية-التنفيذية، وهو ما توضحه مجمل الدراسات عن أوضاع النقابات العمالية في معظم دول العالم العربي.
احتاجت الرأسمالية الليبرالية إلى تطوير المجال الديمقراطي العام في مجتمعاتها، انطلاقاً من تطوير الدساتير نفسها، وتأكيد سلطة القانون في المجتمع، ومنح الفرد حريات كبيرة، بالإضافة إلى تطوير القوانين المتصلة بحقوق الطبقات العاملة، كما احتاجت إلى التكامل مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية، وتطوير البنى التحتية، والخدمات، والمنظومات الإدارية، بينما تقوم رأسمالية المحاسيب على استحداث آليات وبنى شكلية فاقدة لأي مضمون، مع إغلاق واسع للفضاء العام، وتقليص واسع للحريات الفردية، خصوصاً حرية التعبير.
إن سلسلة الأزمات التي أطاحت باستقرار عدد من دول العالم العربي تتّصل بشكل مباشر بتوسّع رأسمالية المحاسيب، وهيمنة فئات محدودة على مصادر الثروة، ما وسّع الفجوة الطبقية بشكل غير مسبوق، وحوّل قطاعات واسعة من المجتمع إلى مجرد تجمّعات بشرية على هامش الإنتاج والدخل والتعليم، وزاد لديها عوامل النقمة، والإحساس بانعدام الكرامة، وسهولة الانقياد تالياً إلى العنف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"