رحم الله عبدالله عمران

03:05 صباحا
قراءة 5 دقائق
فقدته وأنا لم أشبع منه بعد، وكيف أشبع منه وهو أول من فتحت عيني عليه يوم حضر الحفل الذي أقيم في شيراتون القاهرة في عام ،1972 وكنت لتوي قادماً من دبي أريد الالتحاق بجامعة الأزهر الشريف .
كان أخوه الأستاذ تريم عمران تريم رحمه الله أول سفير لدولة الإمارات في القاهرة، وكان الدكتور عبدالله عمران رحمه الله أول وزير للتربية والتعليم للإمارات يرعى حفل استقبال طلبة الإمارات الجدد في القاهرة لذلك العام .
لقد بكيت على الأستاذ تريم يوم توفي، لأنه كان نادر الوجود في زمانه، أما الدكتور عبدالله عمران، فسوف أبكيه أكثر وأكثر لأنه أندر أهل زمانه في عالم الصحافة الإماراتية وفي حب الوطن وتبني قضايا الأمة .
نعم فقدته قامة صحفية شامخة، وأخاً كبيراً، وسوف أفتقده معلماً وموجهاً وإدارياً ناجحاً وصديقاً أميناً ومحباً غيوراً على وطنه، ووفياً باراً بأبناء أمته . ولكم أوجع قلبي نبأ وفاته، رغم أن الموت حق، والموت يأتي من غير سابق موعد، إلا أنني لم أتوقع أن الفقيد يغادر الساحة بهذه العجالة . غادرنا في وقت نحن في أشد الحاجة إلى حنكته وإلى كلمته الحكيمة التي كان يكتبها بين حين وآخر في الصفحة الأولى من صفحات الخليج .
كيف أنساه وكان أول من فتح قلبه ومكتبه لي عام ،1977 يوم عدت خريجاً من جامعة الأزهر، فبدلاً من أن أعمل في المحاكم ذهبت إليه طالباً الالتحاق بركب الهيئة التعليمية في وزارة التربية .
فقال لي معاليه، رحمه الله: أنت خريج الشريعة والقانون، أولى بك أن تعمل في محاكم دبي، فقلت له: اقبلني قاضياً بين الصغار، بدلاً من أن أعمل قاضياً بين الكبار وأنا غرّ صغير بعد من غير خبرة .
فتعينت مدرساً في المعهد الديني الثانوي، ومنذ ذلك الوقت ارتبطت به ارتباط الأخ بأخيه الكبير، إلى أن انتقلت إلى وظائف عدة في التربية، وكنت أتردد عليه في "دار الخليج" بالشارقة، فكان يرحب بي كلما رآني، وعند ما أخرج من عنده يودعني عند باب المصعد لا باب المكتب .
وفي عام 2002 عندما استقلت من الوزارة اتصل بي رحمه الله، يطلب مني أن أتسلم عملاً دائماً في "الخليج"، أو أكون أحد كتاب "الخليج" إن لم أتسلم عملاً رسمياً في "دار الخليج"، وكنت إلى ذلك اليوم أكتب في صحيفة "البيان"، فلم أستطع أن أرده، لأنه صاحب الفضل عليّ، فانضممت إلى صحيفة الخليج كاتباً من كتابها وما زلت .
وبعد ذلك كلما زرته في مكتبه أو التقيت به في مجلس، أو في حفل أو هاتفني شخصياً، كان يرحب بي ويسألني عن أحوالي، كأنه لم يرني من زمان، وكنا نلتقي في مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الأسبوعي في قصر زعبيل .
وفي كل مرة كان يجدد ثناءه على جهودي، ويشكرني على ما أكتب أو أؤلف، وكان معجباً بكتاباتي وأسلوبي ومنهجي ولا أذكر مرة جرحني بكلمة، لأنه كان قمة في الخلق، قمة في الذوق .
وفي المرة الأخيرة وهو في لندن، اتصل بي هاتفياً من هناك، يشكرني على مقال كتبته عن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي .
ولا أنسى يوم أخبرته عن كتابي "تاريخ القضاء في الإمارات"، وقلت له: أود أن تكون يا دكتور عبدالله أحد من يقدمون لي الكتاب، ففرح بذلك كثيراً، وقال سأفعل ذلك بكل سرور .
ثم أذكر أني لما أعطيته الكتاب ليكتب لي تقديمه، كان اسم الكتاب: القضاء في أيام الإمارات المتصالحة، فقال لي يا دكتور عارف، كتابك موسوعة تاريخية يتناول تاريخ القضاء في الإمارات قديماً وحديثاً، ولأول مرة يصدر كتاب بهذا الحجم وبهذا المفهوم العميق، من الأنسب أن تسميه تاريخ القضاء في الإمارات .
فكان بالفعل ما اقترحه رحمه الله هو الأنسب، فغيرت اسم الكتاب إلى ما اقترحه الدكتور عبدالله عمران، ثم قدم لي تقديمه القيم الذي اعتز بكلماته التي عبرت عما في الكتاب أصدق تعبير، وأثنى هو على جهدي فوق ما أستحقه .
أجل . . . واليوم عندما يترجل مثل هذا الفارس، فارس الكلمة، وفارس الصحافة، وفارس القضايا الوطنية، يتقطع قلبي ألماً على رحيله المفاجئ، ولا أجد أبلغ مما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في تغريدته في حق الفقيد .
إن تريم عمران وعبدالله عمران، عندما أنشآ "دار الخليج للصحافة"، وقفاً نفسيهما على النضال والتضحية في سبيل إعلاء شأن الوطن، وإنهما من أولئك القلة القليلة التي رافقت زايد وراشد يوم بناء الاتحاد المجيد، فالسابق تريم واللاحق عبدالله، وكلاهما قدم للإمارات أغلى التضحيات بالكلمة وبالفعل .
إن الوطنية والولاء والانتماء للأرض، لا تشترى بالمال، ولا تورث من الأعمام والأخوال،ولكنها هبة من الله يودعها في قلوب الرجال، وليس أي رجال، فمن الرجال كما قال ابن دريد:
الناس ألف منهم كواحد
                 وواحد كالألف إن أمر عنى
أو كما قال الشاعر الآخر:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
                على الكثير ولكن لا أرى أحدا
إن الدكتور عبدالله عمران كان من النوعية النادرة والمتميزة في منطقة الخليج، فهو وتريم أنشآ مدرسة تريم للصحافة الإماراتية، بل والخليجية والعربية، ولقد تخرج فيها الكثيرون منهم نجل الفقيد الأستاذ خالد عبدالله عمران تريم الذي سيكون امتداداً لذلك النهج التريمي، ويكون خير خلف لخير سلف .
الدكتور عبدالله عمران كان نموذجاً متفرداً، فهو من الرعيل الأول رعيل زايد وراشد، وكان ثاني اثنين في صناعة الصحافة الحرة في دولة الإمارات في الربع الأخير من القرن العشرين، والكلمة البطلة والشجاعة، ليس في مقدور كل إنسان أن يصنعها، لأنها تحتاج إلى أن يكون صاحبها مقداماً، لا يلتفت إلى الوراء .
وأملي أن تبقى صحيفة الخليج التي قالت كلمتها البطلة بفضل هذين الرجلين، تبقى بطلة وراسخة رسوخ الجبال، لها مواقفها التي لا تتأثر، ويبقى لها حضورها بين الصحافة المحلية والخليجية والعربية والعالمية .
ولعمري من يقرأ "الخليج" الإماراتية اليوم، سوف يستغني عن كل الصحف العربية، لأن كل الصيد في جوف الفرا كما يقول المثل، وهي بما أنها تصدر بالعربية والإنجليزية، استطاعت أن تغطي كل المساحات وتقطع كل المسافات، وتشبع كل رغبات القراء في الشرق والغرب، وبتنويع صفحاتها ترضي كل الأذواق .
إن وزارة شؤون الرئاسة في دولة الإمارات، وكذلك دواوين الحكام عندما تنعي الدكتور عبدالله عمران تريم، تدري بأن الذي رحل عنا، كان عميد الصحافة، وكان رمزاً من رموز الدولة في العمل الوطني .
لاشك أن قلوب المجتمع برمته لتتقطع ألماً، وإن أعيننا جميعاً لتدمع، وإننا لفراقه لمحزونون، وليس لنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون . و نقول لأهله يا آل تريم صبراً فإن فقيدكم في الجنة بإذن الله، وإن البقاء لله وطول العمر لنجليه خالد وعمران وكافة أسرة الفقيد ولآل تريم الكرام .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"