روسيا والنفوذ اليهودي

03:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الحسين شعبان

ينسى بعض العرب الشيء الكثير من حقائق الديموغرافيا والجيوبوليتيكا حين يتحدثون عن روسيا اليوم في خضم الصراع في الشرق الأوسط، ولاسيّما دورها في سوريا، رافعين أحياناً من شأن «الصداقة» والاعتبارات «المبدئية» فوق المصالح التي لا تتردّد، ولا تخفي روسيا تقديمها كأولويات في سياساتها الخارجية.
وكجزء من السياسة الروسية في المنطقة هو التوازن في علاقتها مع العرب، وعدوتهم «إسرائيل»، لاعتبارات كثيرة منها: النفوذ اليهودي المالي، والتجاري، والإعلامي، والفني في روسيا، حيث يعود الوجود اليهودي إلى القرن التاسع الميلادي بعدما توسعت مملكة الخزر في وادي الفولجا واستقر قسم كبير من اليهود في مدينة كييف لمركزها التجاري الذي يربط البحر الأسود وآسيا وغرب أوروبا، إلى وجود ما يزيد على مليون يهودي من أصل روسي، أكثر من نصفهم يحملون جوازات سفر مزدوجة، وهم جزء من إمبراطورية مالية دولية متعدّدة الجوانب.
وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية بقيادة لينين، وتأسيس الاتحاد السوفييتي، كان عدد اليهود يزيد على مليونين ونصف المليون، وقد توزّع الآخرون على دول مستقلة مثل بولونيا، وليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا، وعشية الحرب العالمية الثانية كان عددهم نحو ثلاثة ملايين. وشرّع البلاشفة قانوناً يساوي اليهود بغيرهم وأصبحت معاداتهم «جريمة» تصل عقوبتها إلى الإعدام، ولكن لينين، وتأثراً بماركس، كان يعتقد أن «اليهود لا يشكّلون أمة مستقلة»، ويرى أن الحل الأمثل للمسألة اليهودية هو إدماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. أما ستالين فحسب تعريفاته للأمة فقد اعتبر «اليهود أمّة على الورق».
وسبق للينين أن عارض فكرة تأسيس حزب شيوعي يهودي مستقل «البوند»، داعياً إلى انضوائهم في الحزب الأصلي، ووجدت هذه التنظيرات تطبيقات مختلفة، فخلال الأربعينات والخمسينات جرت عمليات دمج، و«ترويس» إكراهية للجماعة اليهودية، وكان عدد اليهود في الحزب الشيوعي 280 ألفاً من مجموع أعضاء الحزب البالغ عددهم في منتصف السبعينات 14 مليون عضو، بينهم عدد كبير من الأطباء، والكتاب، والصحفيين، والمشتغلين بالبحث العلمي يفوق عددهم إلى نسبة عدد السكان.
ومع كل هذه المواقع، فإن ملف الهجرة ظلّ قائماً، بل ازدادت الضغوط لفتحه، لاسيّما في الثمانينات، باستغلال أجواء البريسترويكا التي دعا إليها جورباتشوف، وكان شامير وصف هجرة اليهود السوفييت باعتبارها «المعجزة الثانية»، وهو يعني بالمعجزة الأولى قيام دولة «إسرائيل»، لأنه يدرك الأهمية البالغة لعملية الهجرة في ظل استمرار مأزق «إسرائيل» الأخلاقي، والحقوقي، والإنساني، لاسيّما بهدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني، خصوصاً حقه في تقرير مصيره.
وكان هدف الهجرة الجديدة التي قدّر أن تبلغ حتى نهاية الثمانينات مليون يهودي، الوقوف بوجه القنبلة الديموغرافية الفلسطينية التي ستهدد بالانفجار، وتؤثر في التركيب السكاني لدولة «إسرائيل»، قبل أكثر من ربع قرن على قرار «الكنيست» باعتبارها دولة «يهودية نقية»، وتم تقديم المغريات لهم، بما فيها الاستيطان في القدس.
وترافق ملف الهجرة مع استئناف العلاقات الدبلوماسية بين «إسرائيل» وكل من هنغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، وبلغاريا، وبولونيا، ويوغسلافيا، ورضوخ ألماني ديمقراطي لمطالب «إسرائيل» بالتعويض عن الأضرار التي لحقت باليهود في الحرب العالمية الثانية على يد هتلر، وتحوّلت الهجرة من حق فردي إلى هجرة جماعية شبه إكراهية، لاسيّما بإقامة جسر جوي، الأمر الذي عقّد من عملية إقامة سلام حقيقي. جدير بالذكر أن المستوطنين الروس المهاجرين إلى «إسرائيل» هم الأكثر يمينية، وتطرّفاً، وتتّخذ أغلبيتهم الساحقة مواقف مسبقة معادية من العرب.
وحسب الكاتب اللبناني اليساري يوسف مرتضى في كتابه المهم والشائق «المسلمون في روسيا»، فإن نفوذ اليهود الروس يزيد على حجمهم، فوزير الخارجية، وفيما بعد وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان، ورئيس «الكنيست» يزلي أولشتاين، ورئيس الوكالة اليهودية شرانسكي، ونائب وزير الخارجية رئيف ألكين، كلّهم من المتطرّفين، بل إن اليهود الروس في الأرض المحتلة ازدادوا تطرفاً (عمّا كانوا عليه) و5% منهم فقط مع عودة الجولان إلى سوريا، طبقاً لدراسة البروفيسور ماجد الحاج وفقاً للكتاب المذكور.
وعلينا أن نعرف علاقة الصداقة التي تربط بوتين بنتنياهو، وحسب وصف الطرفين فإنها صداقة استراتيجية بامتياز، علماً بأن «إسرائيل» تحفّظت على فرض عقوبات على موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم، وباعتها طائرات بلا طيّار، وكان لها دور غير منظور في موضوع السلاح الكيماوي السوري، ولم يكن لموسكو اعتراضات على ضرب مواقع داخل سوريا من جانب القوات الجوية «الإسرائيلية»، علماً بأن حجم التبادل التجاري هو أربعة مليارات دولار بين البلدين، كما التزم بوتين في خطاب له أمام الحاخامات بمحاربة حازمة لأي تعبير «لا سامي» على أرض روسيا (2014)، متعهداً دعم الجاليات اليهودية في روسيا، وباقتباس عن كتاب يوسف مرتضى أنقل قولاً للبروفيسور ماجد الحاج مفاده «إن الروس صاروا أكثر «إسرائيلية» مع الزمن، وتلك هي لعبة المصالح ذات العلاقات المتناقضة».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"