زراعة الصحراء في الوطن العربي

02:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

عاشت الإنسانية ردحاً طويلًا من الزمان وهي تعتبر الصحراء تكويناً طبيعياً يمثل الجانب السلبي للحياة؛ نظراً لصعوبة الطقس وندرة المياه، ولكن الأمر بدأ يختلف الآن. فالصحراء هي مخزن المعادن النفيسة ومستودع الموارد الطبيعية النادرة، وهي بذلك تمثل ثروة قومية. وإذا كنا نتوهم أن الصحراء هي مساحة سلبية محسوبة على خريطة الوطن، فنحن واهمون؛ لأن الصحراء أصبحت مصدر إلهام سياحي، ومناطق جذب لهواة ارتيادها؛ إذ إن سياحة الصحراء أصبحت واحدة من أهم أنماط السياحة في عصرنا؛ لأنها تسعى نحو مناطق جافة نقية التهوية لا تعرف التلوث، ولقد لاحظنا أن هناك دولًا صحراوية تجاوزت العقدة التقليدية، لتصبح مصدر إلهام لأجيال تدرك حب الصحراء، وربما يكون الاتجاه المنتظر للسياحة في دولة مثل المملكة العربية السعودية، منطلقاً من هذا التصور، في ظل التوجهات الإصلاحية الجديدة هناك.
أما نحن هنا في مصر، فلدينا ما هو أهم وأعظم في صحرائنا المترامية، في دولة يعيش سكانها على ما يزيد قليلًا على 6% من المساحة الكلية، ولعلي أطرح هنا رؤية لاستغلال الصحراء المصرية من خلال المحاور التالية:
أولًا: إن درجة سطوع الشمس في الصحراء المصرية المترامية، تجعل منها بيئة مثالية لتوليد الطاقة الشمسية حسب تكنولوجيا الألواح المعدة لذلك الغرض، ويمكن أن تكون مصر ولعلها في الطريق إلى ذلك مصدراً رئيسياً للطاقة الشمسية في المنطقة وربما في العالم كله؛ ذلك أن درجة سطوع الشمس في بلادنا، تبدو أقوى من معظم المناطق المتخصصة في ذلك النوع من الطاقة.
ثانياً: إن الصحراء الواسعة تضم واحات مأهولة، وربما كان أكبرها في محافظة الفيوم، ثم واحة «سيوة» والواحات الأخرى المتناثرة، وتلك كلها مناطق جاذبة للسياحة الأجنبية والداخلية أيضاً، فالواحات في النهاية هي بقع خضراء تنفجر فيها عيون المياه، فتبدو من أجمل مناطق الدنيا، وأكثر المقاصد السياحية جاذبية وتأثيراً.
ثالثاً: إن التنقيب عن المعادن وغيرها من إفرازات الطبيعة خصوصاً البترول، هي منح إلهية يسعى إليها الناس فتحيل شركات التنقيب تلك المناطق المعمورة إلى مجتمعات عصرية، يتطلع إليها الجميع، ولدينا نموذج شركة «أرامكو» في شرقي المملكة العربية السعودية، التي تبدو قلعة شامخة على أطراف الصحراء في منطقة «الظهران».
رابعاً: إن مسألة الكشوف الجغرافية الداخلية في أعماق الصحراء، هي لون آخر من ألوان الإثارة التي يشعر بها الغرباء وهم يتحركون بسياراتهم وسط الآثار الإسلامية والقبطية، وقبلهما الفرعونية، في سيمفونية زمنية لا نكاد نجد لها نظيراً بين آثار العالم المختلفة، وكل ذلك نبت الصحراء الواسعة بما فيها من كنوز وموارد بشرية، جنباً إلى جنب مع ما يريده بعض الذين سبقوني وأدركوا أن الصحراء الواسعة هي منارات للتقدم؛ لأنها تحتوي على عشرات المشاريع التي تستهوي الشباب، وتفتح أمامهم آفاقاً للمستقبل الواعد.
خامساً: إن بعض مناطق الصحراء كانت في الأصل بقاعاً يانعة في فترات معينة من التاريخ، ولكن جاء عليها حين من الدهر فقدت بريقها وتصحّرت بعد خضرة، وأصبحت مصنّفة وكأنها أرض الجن، ولكن بريقها ما زال يشد الأجانب أساتذة وباحثين وخبراء، يرون في رمال الصحراء بديلًا عن معالم أخرى يفتقدونها في بلادهم.
سادساً: دعنا نعترف بأن الصحراء ليست في مجملها نقمة، ولكنها يمكن أن تتحول إلى نعمة؛ لأن فيها آفاقاً واسعة لاستكشاف الحقائق وحل رموز الكون، وفيها تبدو أهمية الآثار التي هي ملك لأجيال قادمة، علّها تدرك فلسفة الصحراء وارتيادها.
وما زالت أصداء البعثة الكشفية التي قادها أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكي المصري في منتصف أربعينات القرن الماضي، وكانت معه مجموعة من الأجانب والمصريين، الذين أبدوا جميعاً انبهارهم بالصحراء، حتى إن واحداً منهم تمكن من قيادة الركب نحو واحة مجهولة في الصحراء المصرية، وأعني بذلك اكتشاف واحة «الجغبوب»، التي كانت مثار نزاع بين «بريطانيا» و«إيطاليا».
ولعل ذلك كله يلخص في مجمله أهمية الصحراء وسحرها الحقيقي في عالم اليوم، اقتصادياً وسياسياً، إذا جاز التعبير. ولذلك ينبغي ألاَّ نفترض أبداً أن الأرض المزروعة بمحاصيل معينة، هي وحدها التي تمثل عناصر الثروة القومية، فرمال الصحراء لا تقل أهمية عن الأرض الخضراء.
بقي أن نقول إن في الصحراء آثاراً حقيقية للفلسفة والتأمل وفهم ما يستعصي على الإنسان من مشكلات المدن، أو ضجيج القرى، أو صخب المصانع والأسواق، كما يجب ألا ننسى أن الصحراء هي مستودع الثروات ومخزون الاكتشافات، فهي ليست مجرد صور على (كارت بوستال) لجمل يعدو تحت عنوان: «سفينة الصحراء فوق رمال الأرض العربية».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"