سوريا ورقعة الشطرنج الكبيرة

02:39 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

قال وزير الخارجية الفرنسي في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، رولاند دوما في حوار أجري معه في شهر أكتوبر سنة 2013، إنه وقبل سنتين من اندلاع الأحداث المأساوية في سوريا نتيجة للقمع الذي جابهت به قوات الأمن المحتجين المطالبين بالإصلاح السياسي، تم الاتصال به من طرف مجموعة من رجال الاستخبارات البريطانية والأمريكية، الذين كانوا يعملون من أجل التحضير لتمرد عسكري في سوريا يؤدي إلى قلب نظام الحكم بدعم من بعض المعارضين للنظام من بينهم عسكريون سوريون سابقون.
ويضيف دوما أنهم سعوا إلى معرفة رأيه بشأن ما كان يتم التحضير له وحاولوا أن يتعرفوا من خلاله إلى المواقف التي يمكن أن تتبناها الدولة الفرنسية. وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي يمكن أن تُفضي إلى الاستخفاف بمعاناة السوريين وتبرئة حكومة بشار الأسد من القسم الأكبر من المسؤولية عما حدث من تدمير لهذا البلد العربي، يمكننا القول إنه وبصرف النظر عن التحليلات المرتبطة بالمستقبل السياسي لسوريا وبمصير النظام الحالي، فإنه يجب الاعتراف بأن الملف السوري لم يعد بين أيدي السوريين ولا حتى بين أيدي القوى الإقليمية المتصارعة، ولكنه أضحى مرهوناً بمآلات الصراع الدولي في منطقة الشرق الأوسط، ولن يكون هناك استقرار أو سلم سياسي ومجتمعي في سوريا إلا إذا توصلت القوى الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة وروسيا إلى توافق يفضي إلى وضع حد لهذه المأساة.
يشير المتابعون لشؤون المنطقة العربية إلى أن الانعطاف الذي يحدث بالنسبة للملف السوري لافت للنظر إلى حد بعيد، فقبل سنة من الآن كانت روسيا منبوذة في أروقة الأمم المتحدة ومتهمة بسبب مواقفها المتعلقة بأوكرانيا وبدعمها لبشار الأسد، أما الآن فقد تحوّل الرئيس الروسي إلى نجم سياسي بعد الخطاب الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأمريكي باراك أوباما في نيويورك، ويحدث كل ذلك بموازاة إقدام روسيا على تعزيز تواجدها العسكري، الأمر الذي يضع روسيا في نقطة محورية بالنسبة لمجموع التحركات الدبلوماسية الجارية في سوريا، خاصة أن الدول الغربية وفي مقدمها دول الاتحاد الأوروبي تدفع بقوة باتجاه إيجاد حل سياسي للأزمة بسبب الضغط الذي يمارسه ملف اللاجئين السوريين على العلاقات بين الدول الأوروبية.
تأتي هذه التطورات في لحظة سياسية بدأت فيها أغلب الدول الغربية وفي مقدمها ألمانيا والولايات المتحدة، تقبل ولو على استحياء بفكرة أن يلعب الأسد دوراً سياسياً في تسيير المرحلة الانتقالية المفضية إلى تشكيل نظام سياسي جديد قادر على تمثيل كل مكونات الشعب السوري، ويؤشر هذا التحول إلى أن الموقف الغربي لم يعد متجانساً، وأن هناك رؤى ومواقف متعددة تنطلق من حسابات تتعلق بالمصالح الحيوية لكل دولة.
ونزعم أن الموقف الروسي يزداد قوة بفضل الدعم الصيني، حيث تزامنت زيارة الرئيس الصيني إلى الولايات المتحدة ولقاؤه الحاسم مع باراك أوباما مع التغيّر الحاسم في الموقف الروسي بشأن سوريا وإصرارها على أن لا تترك الأوضاع تتجه نحو انهيار كامل للجيش السوري ولمؤسسات الدولة، نتيجة لحالة الإنهاك التي أصابت الجيش السوري بسبب محاربته لقوى المعارضة والقوى المتشددة على أكثر من جبهة من جبهات القتال.
ويمكن القول إن إعادة الدفء إلى العلاقات الأمريكية الصينية ستنعكس بشكل إيجابي على العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، لأن المحافظة على المصالح الحيوية لأمريكا في جنوب شرق آسيا قد تجعلها تلعب دوراً أكثر إيجابية في حل عقدة الملف السوري ومجمل الملفات العالقة في منطقة الشرق الأوسط.
نستطيع أن نسجل أيضا في هذه العجالة، أنه وبموازاة كل المواقف الغربية التي عرفت في مجملها تغيرات نسبية بشأن التعامل مع ملف نظام الأسد، نجد أن الموقف الفرنسي يسعى في ما يبدو إلى لعب نفس الدور المتعلق ب«المناولة السياسية» داخل المحور الغربي، تماماً كما حدث بالنسبة للملف النووي الإيراني، حيث تسعى فرنسا من جهة إلى طمأنة القوى الإقليمية التي تلعب دوراً نشطاً في دعم وتسليح قوى المعارضة، من أجل إتمام الصفقات المتعلقة ببيع أسلحتها لهذه القوى، وتسعى من جهة أخرى إلى أن يكون لها دور مستقبلي في سوريا ينسجم مع ثقلها التاريخي بوصفها القوة الاستعمارية السابقة لسوريا ولبنان. وبالتالي فإنه ليس من الصدفة أن يتزامن إعلان باريس عن قيامها بتنفيذ غارات جوية ضد تنظيم «داعش» الإرهابي مع قيام روسيا بتعزيز وجودها العسكري في سوريا، وغداة لقاء بوتين الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
لقد أربكت التحركات الروسية الأخيرة مجمل القوى الغربية التي لا تمتلك حتى الآن استراتيجية جاهزة وقابلة للتنفيذ على المدى القريب، لأنها تسعى إلى إسقاط النظام السوري، ولكنها لا تريد في المقابل أن تتدخل عسكرياً في سوريا، لكيلا يتكرر السيناريو العراقي مرة أخرى.

بالنسبة للتحليلات المتداولة بشأن الأزمة السورية والتطورات الأخيرة المرتبطة بها، نلاحظ أن بعضها يركز على نصف الكأس الفارغ، بينما يركز القسم الآخر على نصف الكأس المملوء من زاويتين متناقضتين وبشكل يفضي في الغالب إلى تمييع الحقائق وضياع البوصلة، وقد ذهبت بعض هذه التحليلات إلى تشبيه ما يحدث الآن بالنسبة لروسيا بما حدث في السابق للاتحاد السوفييتي في أفغانستان. ويمكن أن نسجّل هنا ملاحظة بسيطة تتعلق بالاختلاف الهائل في المعطيات الجيوسياسية والجيوإستراتيجية بين الحالتين وبين المرحلتين، وذلك فضلاً عن أن أي انخراط في محاولة استنزاف الجيش الروسي في سوريا ستكون له تبعات خطيرة على أمن واستقرار كل المنطقة، وتحديداً على دول الجوار السوري، الأمر الذي يفترض أن يدفع كل الأطراف نحو اعتماد مقاربة سياسية لحل الأزمة السورية، هذا إذا افترضنا بطبيعة الحال أن روسيا ستنخرط بشكل كامل في الصراع السوري من خلال إشراكها لقوات برية، الأمر الذي تستبعده موسكو على الأقل في المرحلة الراهنة. ونعتقد في هذه العجالة أن المقاربة العسكرية للأزمة السورية، سيترتب عنها التمكين بشكل تلقائي للمتشددين ولأصحاب مشاريع الإسلام السياسي، لأن المعارضة السورية المسلحة هي في قسم كبير منها معارضة متطرفة ولا فرق بين جبهة النصرة وأخواتها وبين «داعش»، لأن التطرف كالكفر: ملة واحدة. وعليه فإن المشكلة الكبرى بالنسبة للمكوِّن الأكبر في سوريا هي أنه ضاع بين 3 أقطاب رئيسية، القسم الأكبر استقطبته المجموعات الجهادية المسلحة، والقسم الثاني من المعارضة السنية الحداثية والليبرالية لا يمتلك أي قاعدة عسكرية من شأنها أن تؤثر بشكل حاسم في المعادلة السورية، والقسم الثالث والأخير، اختار أن يظل وفياً للنظام من أجل الحفاظ على مكاسبه ومصالحه الاقتصادية والسياسية.
ونزعم في الأخير أن المشكلة أضحت الآن تتجاوز مجرد تغيير النظام في سوريا، فهو سيتغير لا محالة بشكل أو بآخر، ولكن المشكلة تتعلق بتجاوز المقاربة التي تعتمد على آلية الغاية تبرر الوسيلة، فقد أسهمنا نحن العرب في الثمانينات من القرن الماضي في تحوّل العالم إلى القطبية الواحدة، وعلينا أن لا نسهم الآن في تدمير معالم التوازن القطبي الذي بدأ يتشكل في المرحلة الراهنة، فالحاضر غرس الماضي والمستقبل جني الحاضر، ولا أحد يتمنى أن تجني الشعوب العربية مستقبلاً، مزيداً من الأشواك والدم والدموع في هذه الرقعة الكبيرة من الشطرنج.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"