سيناريوهات ضعيفة الاحتمال

05:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

من الناحية التقنية يمكن القول إن ما قام به الجيش المصري هو انقلاب عسكري، إذ تمت الإطاحة برئيس جمهورية انتخب بالاقتراع الشعبي العام في انتخابات لم يُطعن بنزاهتها، وبالتالي بشرعية الرئيس . لكن الناحية التقنية وحدها لا تقدم شرحاً كافياً لما حصل . فالبلاد كانت تسير في اتجاه انهيار مؤسساتي واقتصادي، وانقسامات سياسية واجتماعية وانسداد خطر في الأفق، وتراجع في كل المستويات، مع محاولات حثيثة لجماعة سياسية ودينية معينة للهيمنة على المفاصل الأساسية في الدولة، وهي محاولات قوبلت بمقاومة شديدة من صناع ثورة يناير 2011 التي أطاحت حكماً استبدادياً ليس من أجل أن يحل محله حكم استبدادي آخر .

وهكذا فإن ثورة 30 يونيو التي تمثلت بالمظاهرات العارمة التي نظمها معارضو الرئيس مرسي والتي تخطت في حجمها وزخمها المظاهرات التي أطاحت الرئيس مبارك، ليست سوى استكمال لثورة يناير أو محاولة لإنقاذها . لذلك تدخل الجيش المصري، وهو المؤسسة الأكثر عراقةً واحتراماً ومصداقية، فأعطى السياسيين، من حكم ومعارضة، فرصة لإخراج البلاد من النفق الخطر الذي دخلت فيه، قبل أن يتدخل بنفسه ليفرض خريطة طريق لتصويب المسار الديمقراطي، وليس ليتسلم الحكم . وكان من الحكمة بمكان تسمية رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً، نظراً لما يتمتع به القضاء المصري من استقلالية واحترام . وبذلك يمكن القول إنه، بمعزل عن الناحية التقنية البحتة، يصعب وصف خطوة القوات المسلحة المصرية بالانقلاب، سواء وافقنا على ما فعلت أو اعترضنا عليه . لقد راكم الإخوان المسلمين، في عام واحد من الحكم، كمّاً من الأخطاء، في السياستين الخارجية والداخلية على حد سواء، كشف عن عجز فاضح في الإدارة وقصور في الرؤية، وغياب برنامج سياسي، سوى أخونة البلد . لقد نجحوا في شيء واحد هو تأليب الرأي العام، من غير محازبيهم ومؤيديهم، ضدهم وتوحيد المعارضين لهم وقيام حركات مناهضة مثل حركة تمرد التي كانت وراء ثورة 30 يونيو . ويبدو أن قسماً لا يستهان به من الناخبين الذين صوتوا للرئيس مرسي في العام الماضي جاء إلى ميدان التحرير هذه المرة تكفيراً عن الذنب وندماً على هذا التصويت، كما بينت تحقيقات صحافية مع المتظاهرين في الميدان .

يبدو أن الباحثين الفرنسي أوليفييه روا والأمريكي ريشارد هاس كانا على حق عندما كتبا في تسعينات القرن الماضي، في تحليلهما للحوادث الدموية الجزائرية بعد الانتخابات التي أجهضت بسبب فوز الإسلاميين، أن خير وسيلة لنزع المصداقية عن الإسلاميين وبالتالي التخلص منهم سلمياً هي في تسليمهم السلطة . ففي رأي الباحثين المذكورين، وهما قريبان من مراكز القرار في باريس وواشنطن، أن الإسلام السياسي، في العالم العربي، عاجز عن حل المشاكل العصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنه لا يملك برامج واعدة، بل شعارات جذابة تخاطب الجماهير المؤمنة البسيطة، وليس عقول الخبراء والمحللين .

لقد عانى الإخوان المسلمين ما عانوا في حياتهم منذ العام 1928 فتعرضوا للكثير من الاضطهاد والملاحقات ما جعلهم يتمرسون على التنظيم والسرية والمناقبية الحزبية، وهي صفات جعلتهم يقطفون ثمار ثورات 2011 رغم أنهم لم يكونوا وحدهم وراءها . وربما يشرح تاريخهم هذا سعيهم لاستغلال فرصة الوصول إلى السلطة من أجل تكريس بقائهم واستمرارهم فيها . خطأهم أنهم لم يستوعبوا أن الظروف تغيرت وأن الشعب والمجتمع المدني لم يعودوا لما كانوا عليه .

لقد كان صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في العام الماضي مدوياً، كذلك كان سقوطهم اليوم . والمرحلة التي تلجها مصر اليوم أخطر بكثير مما كانت عليه عشية ثورة يناير أو غداتها . بل إن محللين متشائمين يتوقعون لها سيناريوهات على الطريقة السورية أو الأفغانية أو حتى الجزائرية (تسعينات القرن الماضي)، ودليلهم على ذلك أن الإخوان لن يخضعوا بهذه السهولة وسيعودوا إلى السرية، وربما إلى السلاح يستخدمونه في عمليات إرهابية، واغتيالات وتفجيرات تحرم الحكم الجديد من الاستقرار .

في الحقيقة، يختلف الجيش المصري كثيراً عن نظيره السوري لجهة علاقته بالشعب، كما يختلف الإسلاميون المصريون عن نظرائهم الأفغان والجزائريين، والمجتمع المصري كما الدولة يضربان جذوراً عميقة في تاريخ مختلف هو الآخر، وبالتالي فالسيناريوهات المذكورة ضعيفة الاحتمال، وعلى الأرجح أن مصر ستعبر هذه الأزمة، وفي فترة قصيرة نسبياً، بعد أن تدفع ثمناً غالياً من دماء أبنائها ووحدتها الداخلية واقتصادها، لتصل إلى الانتقال السياسي المنشود بموجب خريطة الطريق التي أعلنها الجيش . لكن هناك على المدى الأبعد سيناريوهين ممكنين بعيداً عما يحذر منه محللون متشائمون من أفغنة أو جزأرة أو تقسيم :

- التوصل إلى اتفاق بين الإخوان والجيش، سري أو علني لا فرق، يتوقف بموجبه الجيش عن ملاحقتهم ومحاكمة رموزهم بتهم صالحة أو باطلة، في مقابل قبولهم بالأمر الواقع والانخراط في العملية السياسية الجديدة، والسماح لهم بخوض الانتخابات المقبلة، الرئاسية والبرلمانية وغيرها، وبممارسة العمل السياسي والإعلامي والاجتماعي وغيره، كحزب شرعي له حقوق وعليه واجبات .

- يصر الإخوان على عودة مرسي ويستمرون في التظاهر ورفض ما يسمونه الانقلاب العسكري ومفاعيله، فتنقسم مصر عامودياً بين إسلاميين، بعد انضمام سلفيين وغيرهم ربما للإخوان، ومدنيين من يساريين وقوميين وعلمانيين مدعومين من الجيش ومن عدد كبير من الدول في الخارج . وتسير خريطة طريق الجيش إلى التنفيذ على طريق محفوف بالمخاطر والعثرات، وفي نهايتها، وبمناسبة الانتخابات المقبلة، تطفو على السطح الخلافات داخل جبهة الإنقاذ التي لا يجمع بين أطرافها سوى العداء للإسلاميين فتعود الأوراق للاختلاط مجدداً ومعها التحالفات السياسية .

إن طريق التحول الديمقراطي صعب وطويل وشاق، كما برهنت تجارب الدول التي قطعته في القرنين الماضيين . وقد بدأت مصر السير في هذا الطريق المزروع بالألغام، وإذا تمكنت من عبوره فإن شمس الحرية ستشرق منها لتنير المنطقة بكاملها، وإذا أخفقت فإن الظلام الدامس سيغمر هذه المنطقة لعقود طويلة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"