شرعية الخطاب السياسي؟

04:50 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

ما من مسافةٍ فاصلة بين الخطاب «السياسي» وبين السلطة، فالسلطة هي خطابُها، وطالما أن الحال كذلك، فإن شرعية سلطة سياسية ما، لا تجدُ فقط تبريرها في الخطاب، بل إن الخطاب نفسه يكشف عن مدى شرعية هذه السلطة، وعن قدرتها على الاستمرار كسلطة ذات شرعية، وبناءً عليه، يمكن قياس حيوية السلطة عبر حيوية الخطاب، وتجدّد عناصره، في محاولة لأن يكون مطابقاً للواقع الجديد، أي الواقع الذي استجدّت فيه أحداثٌ ومصالحٌ واحتياجاتٌ جديدة، تتطلّب من صانع الخطاب، أي السلطة السياسية، أن يعيد النظر فيما يطرحه الخطاب.
الفلسفة المعاصرة، وخصوصاً الفلسفة الساعية لتفكيك الخطاب، وجدت، وعبر أحد أكبر منظريها، ميشيل فوكو، الفيلسوف الفرنسي (1924-1984)، أن مهمّة الخطاب هي تحقيق السلطة، والاستحواذ عليها، والاستمرار فيها، وهذه المقاربة، ولئن التقت مع تاريخ التفكّر الطويل حول الخطاب والسلطة، منذ اليونان القديمة، بكون الخطاب جزءاً من سياق اجتماعي/ اقتصادي، إلا أنها تفترق عما أنتج تاريخياً بكونها قالت بغياب العفوية عن إنتاج الخطاب، وجعلته مسألة قصديّة، تبعاً لإرادة فاعلين واعين بأهداف هذا الخطاب، وبما يحقّقه من أهداف، في سياق التكوّن التاريخي لمجتمع ما، وثقافة ما.
ما يجعلنا، في هذه اللحظة التاريخية، عربياً، نطرح سؤال شرعية الخطاب، هي تلك الوقائع التي استجدّت، خلال العقد الأخير، والتي تستدعي إعادة النظر فيما أنتجه العرب وجيرانهم في الشرق الأوسط من خطابات سياسية، ومدى قدرتها على مواكبة/ معاصرة ما استجدّ من وقائع ومتغيّرات، ومدى قدرة تلك الخطابات على مطابقة الاحتياجات الجديدة، وهي احتياجات داخلية وخارجية، بما فيها الاحتياجات العولمية، في سياق ما قدّمته ثورتا التقانة والاتصالات من منتجات، أصبحت تتحكم بجزءٍ كبيرٍ من واقعنا، بل وتحدّد خياراتنا في كثير من الأحيان.
تحدّدت بنية وملامح مجمل الخطابات العربية السياسية في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وقامت على ثنائيات/ حدود فاصلة، كان بإمكانها آنذاك أن تخاطب وعياً اجتماعياً، في مجمله هو وعي محافظ وتقليدي، وأن تستقي من ثنائية الخير والشرّ ثنائيات سياسية، لخدمة وصولها إلى السلطة، كما عملت على تسخير فكرة المخلّص في المجال السياسي، فجعلت من الزعيم السياسي مخلّصاً للأمة، معصوماً من كل خطأ، لا يأتيه الباطل لا من أمامٍ ولا من وراء، في الوقت الذي يُحيك فيه أعداء الأمة مؤامرات لا تُحصى للنيل منه، وإفشال مساعيه النبيلة!
استمدّت تلك الخطابات السياسية جزءاً من شرعيتها من نظامٍ دولي قسّم العالم بين كتلتين، شرقية وغربية، ترى كل واحدة منهما، بل وتروّج، على أنها تمثّل الخير المطلق في مواجهة الشرّ المطلق، لكن هذا النظام الدولي، وما أطلقه من خطابات، استهلكت عقوداً من عمر البشرية، واجه نهايته مع مطلع تسعينات القرن الماضي، لكن الأنظمة السياسية التي دارت في فلكي الكتلتين، وخصوصاً في العالم العربي، بقيت متمسّكة بخطاباتها السياسية، منكرة، ورافضة، أن ترى ذلك الانفجار الكبير الذي أصاب العالم، ونظامه الدولي، معتقدة أن ما حازته من فائض قوة ومال وعنف ونفوذ كفيلٌ أن يضمن لها الاستمرار في سلطتها.
مع انطلاق العولمة، سقطت ثنائية الأسود والأبيض، فقد أسهمت العولمة في دمقرطة المعلومات، وأتاحتها أمام شرائح وفئات كانت خارج دائرة التلقي، والتأثّر، والفعل، وأصبح بالإمكان إحراز مستوى جديد من التفاعل لا يمرّ عبر القنوات الرسمية للأنظمة السياسية، وغير محكومٍ بخطاباتها السياسية، ولا يتعامل معها بوصفها موضوعاتٍ، بل ذوات، لها الحرية في الاختيار، أو تشكيل نفسها بقدرٍ أكبر من احترام احتياجاتها.
الأنظمة السياسية الحديثة، بما تمتلكه من ديناميات داخلية، ومن سياق مؤسّس على العقلانية بشكلٍ عام، والعقلانية السياسية بشكلٍ خاص، لم تعد تمارس الخطاب بوصفه حقيقة مطلقة، بل باعتباره منظومة قابلة لإعادة النظر والنقد والتصويب، تنتمي إلى حيّز الواقع، وقاموسه، كما أن السلطة السياسية نفسها أصبحت محطّ تساؤل ومساءلة يومية، ما يجعل الخيارات العامة خيارات مشتركة، بما يترتّب عليها من نتائج، وليست خيارات أنظمة ونخب سياسية تريد لكل فئات المجتمع أن تشاركها أزماتها ومشكلاتها ومعاركها، في الوقت الذي تحرمها المشاركة في السلطة، وتمنعها من الاقتراب منها، أو التفكير في الوصول إليها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"