صراع الإيديولوجيات

05:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

لاتخلو بلاد العرب في جميع الأوقات من وجود هوس جنوني بكلمة أو بفكرة أو بشعار . في أيامنا الحالية يتركز ذلك الهوس في حملات إعلامية تجريحية لا تتوقف حول المفهوم السياسي القديم الشهير المعبَّر عنه بكلمة الإيديولوجية . والواقع أن هذه الحملة التي رعتها دوائر امبريالية وصهيونية وعربية، بدأت في سبعينات القرن الماضي حال حدوث الانتكاسة الكبيرة لإيديولوجية القومية العربية، وبالأخص في صورتها الناصرية . كان الهدف واضحاً: إذا اقتنعت الشعوب العربية بعدم حاجتها لأية إيديولوجية، وبأن الإيديولوجية القومية كانت وراء الانتكاسات، قادها ذلك إلى هجرها للقومية العربية .

وهذا بدوره سيقود إلى محو الشعارات القومية، وعلى الأخص الوحدة العربية وتحرر الوطن العربي، من الذاكرة الجمعية للأمة العربية، ومعها محو صورة أبرز قائد ناضل من أجلها، الرئيس الراحل جمال عبدالناصر . ولقد ساعد على ذلك انقسامات وصراعات الحركات والأحزاب القومية وفشلها الذريع في تكوين كتلة تاريخية لمراجعة ومعاودة طرح تلك الإيديولوجية في الساحة السياسية العربية .

وعندما تمكنت قوى التوجهات القطرية المنغلقة على نفسها، والمرتهن بعضها للاستراتيجية الرافضة لأي توجه وحدوي عربي، عندما تمكنت من استلام الحكم في بعض الأقطار المفصلية، هدأت الحملة الإعلامية تلك، ذلك بأنه خيل لحاملي ألويتها في الخارج والداخل أن الجماهير العربية قد قبلت قدرها بالعيش في ظلال حكومات استبدادية انتهازية فاسدة لا تؤمن بأي التزام قومي، حتى في حدوده الدنيا .

لكن حيوية وشجاعة ونقاء شباب ثورات وحراكات الربيع العربي فاجأت الجميع، لقد كان واضحاً أنها تطرح مبادئ وشعارات منبثقة من عدة إيديولوجيات عرفها الوطن العربي وعرفها العالم عبر القرن العشرين . كانت هناك شعارات إيديولوجية سياسية واقتصادية وقومية وليبرالية واشتراكية، فشعارات الكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والصوت المدوي بأن #187;الشعب يريد#171; هي مبادئ وقيم وأهداف في صلب تلك الإيديولوجيات، وهي شعارات تلتحم مع بعض ما طرحه التيار القومي الهادر في خمسينات القرن الماضي، وبالتالي يمكن أن تكون مدخلاً لتجديد ذاكرة الأمة التي أريد لها أن تنسى .

من هنا الرجوع والتجديد للحملة الإعلامية السابقة ضد مفهوم الإيديولوجية ومحاولة جعل الشعارات التي طرحها شباب الثورات شعارات منفصلة عن بعضها بعضاً، متنافسة في سلَّم أولويَّتها، غير قابلة لطرحها كإيديولوجية جماهيرية شاملة متماسكة، كمشروع تحرر ونهوض، يعمل من أجلهما الإسلاميون والقوميون والليبراليون والاشتراكيون في حراك تاريخي متناغم بعيد عن الانغماس في الخلافات الفرعية والهامشية، ويقدم الجميع المشترك على كل تباين إلى أن يندحر المشروع الامبريالي - الصهيوني وتعلو راية العدالة لتشمل الجميع .

لايمكن أن نلوم الدوائر الإعلامية الامبريالية في محاولاتها لجعل الحياة السياسية العربية خاوية من مشروع نهضوي كبير ينطلق من مبادئ وقيم ايديولوجية تحكم مساره وتبعده عن التشويه والسرقة من قبل هذا النظام السياسي أو ذاك، لكن العتب على بعض العرب الذين ينجرفون في هذه الحملة، لأن الحياة السياسية الديمقراطية، إن لم تتفاعل وتتنافس فيها مختلف الإيديولوجيات، تصبح عبارة عن نشاطات اعتباطية لأصحاب مصالح، غير مترابطة ولا مكملة لبعضها بعضاً ولا يمكن تقييمها بالرجوع إلى مبادئ وقيم وأهداف بعيدة المدى .

نحن هنا لا نتكلم عن إيديولوجيات قابلة للانحراف نحو الاستبداد الشمولي، كما حدث للستالينية في الاتحاد السوفييتي السابق أو النازية في ألمانيا، ولا عن الإيديولوجية المتزمّتة التي لا تتفاعل مع غيرها ولا تعدل شعاراتها ولا تراجع مساراتها ولا تتطوَّر مع تغيرات الأزمنة وتبدل العصور، نحن نتحدث عن عكس كل ذلك .

نحن على علم بتيارات مابعد الحداثة في الغرب الذي ترفض أية إيديولوجية، وتريد أن توجد حياة نسبية منفلتة من أي قيم جمعية تضبط المجالين العام والخاص، لكن الغرب حقق حداثته ويستطيع التفكير في ما بعدها . أما نحن فلم نحقق حداثتنا .

مطلوب من قادة الثورات والحراكات العمل ليل نهار لبناء ديمقراطية صلبة مهتمة بالتقدم والسمو الإنساني وبالمصلحة العامة . إن تحقيق ذلك يحتاج إلى تفاعل وتنافس سلمي بين إيديولوجيات تطرح مشاريع إنسانية شاملة متكاملة مرنة تخدم الجميع، وليس لنتف من أفكار وتهويمات مؤقتة تخدم مصالح هذه الفئة أو تلك .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"