عالم لا يراه غير أوباما

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
لم يكن الزعيم البريطاني الشهير «ونستون تشرشل» يقصد سياسياً محدداً، عندما أطلق عبارته الساخرة التي أصبحت مثلاً تتناقله الأجيال، ويشهد على عبقريته ونفاذ بصيرته. عندما شاهد قبراً مكتوباً عليه «هنا يرقد القائد السياسي، والرجل الصادق» تساءل متعجباً كيف يدفن الاثنان معاً؟!. المعنى الذي قصده هذا الزعيم الأديب الفيلسوف هو أن السياسي أبعد الناس عن الصدق. وأنه إما أن يكون الإنسان سياسياً أو صادقاً.
ومن المؤكد أن التاريخ عرف استثناءات لهذه القاعدة. ومن المؤكد أيضاً أن الرئيس الأمريكي ليس أحد تلك الاستثناءات. في الأسبوع الماضي وخلال زيارته إلى ألمانيا أطلق أوباما تصريحاً غريباً أيقظ به كلمات تشرشل في ذاكرة مستمعيه. قال: «إننا سعداء لكوننا نعيش في أزهى عصور السلام وأكثرها ازدهاراً وتقدماً في التاريخ الإنساني.. لقد مرت عقود منذ آخر حرب بين القوى الكبرى.. وأصبح المزيد من الناس ينعمون بوضع صحي وتعليمي أفضل.. وأفلت الملايين من الفقر».

أضاف أوباما مخاطباً كل فرد على كوكب الأرض: «إذا كان لك فرصة لاختيار زمن ميلادك في تاريخ البشرية.. فسوف تختار اللحظة الحالية لكي تولد».

انتهي كلام أوباما، وتبقى بعد ذلك الحيرة وعلامات الاستفهام والتساؤل، عن أي عالم هذا الذي يتحدث عنه؟! كلماته لا تضعه بامتياز ضمن تصنيف تشرشل للسياسيين فحسب، ولكن تجعل منه أيضاً هدفاً لدراسات ما يسمى بحالة الإنكار، وهي مشكلة يعرفها الأطباء النفسانيون، ويرفض فيها المريض الاعتراف بالواقع الذي يعيش فيه. وينكر تماماً الحقائق الماثلة أمامه، والتي يراها الجميع إلا هو، مكتفياً بعالم افتراضي من صنع أوهامه وخيالاته.
ليست هذه قسوة على الرئيس الأمريكي، ولكن هذا ما تثبته الأرقام الموثقة عن حالة السلام والرفاهية في العالم الحقيقي.
ما ذكره أوباما عن مرور عقود دون حروب بين القوى الكبرى صحيح. ولكنه ليس دليلاً على أن السلام يرفرف على أرجاء المعمورة. وللمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن تقرير مهم يشير فيه إلى تزايد الحروب في السنوات القليلة الماضية. توضح الدراسة أن قتلى الحروب في 2014 وحده بلغ 180 ألف شخص ارتفاعاً من 56 ألف قتيل في 2008.
وتبلغ نسبة الضحايا المدنيين في هذه الصراعات 75% بينما كانت في الحرب العالمية الأولى أقل من 5%. وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يصبح في العالم نحو 50 مليون لاجئ.
التقرير الآخر الذي نكتفي بالاستشهاد بما جاء فيه لتقويض رؤية أوباما عن العالم من إعداد جامعة أوبسالا السويدية، وهو دراسة دورية ترصد تطور الصراعات المسلحة في العالم. وفقاً للدراسة تدور حالياً أربعة حروب كبيرة (يسقط فيها أكثر من عشرة آلاف قتيل سنوياً) في أفغانستان، والعراق، وسوريا، والرابعة تقودها منظمة بوكو حرام في غرب إفريقيا.
تفرد الدراسة قائمة طويلة بأرقام الضحايا، وهي بيانات تبعث على الأسى والألم. منها على سبيل المثال حالة سوريا التي تصدرت قائمة الحروب، من حيث عدد الضحايا، خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي العام الماضي وحده سقط فيها نحو 55 ألف قتيل. وفي 2014 قتل أكثر من 76 ألف إنسان. ووصل عدد الضحايا إلى الذروة في 2013 متجاوزاً 73 ألف سوري.
نكتفي بهذا لنسف أوهام السلام التي يصرّ قادة الغرب على تسويقها كدليل على نجاح قيادتهم. أما عن الازدهار والتقدم اللذين تحدث عنهما أوباما، فإن إحصائيات البنك الدولي تتكفل بالرد عليه. وفقاً للأرقام المعلنة فإن 12,7% من سكان العالم، أي 896 مليون شخص، يعيشون بنحو 1,9 دولار أو أقل يومياً أي تحت خط الفقر.
يضع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بصمته أيضاً على هذه الدراما الإنسانية البائسة بقوله، إن نحو 795 مليون شخص في العالم، أي واحد من كل تسعة أشخاص، لا يحصل على ما يكفيه من طعام.
ولن يجد الأطفال الذين سيولدون حالياً، هذا العالم الهادئ المزدهر الذي بشر أوباما آباءهم به؛ لأن 22 ألفاً من هؤلاء الأطفال سيموتون يومياً بسبب الفقر، وفقاً لما تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف». ومن تكتب لهم النجاة، فسيموت منهم 3,1 مليون طفل سنوياً بسبب سوء التغذية.
قد تكون البشرية قد مرت عبر تاريخها الطويل بعصور أكثر قسوة وعنفاً وبؤساً. ولكن من المؤكد أن العصر الحالي ليس هو الأسعد في التاريخ الإنساني. وليس الأكثر ازدهاراً وسلاماً كما يظن أوباما. وإن بعض الظن إثم.

عاصم عبد الخالق
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"