عالم يترجرج في زمن «كورونا»

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
كمال بالهادي

ليس الوباء الأول الذي تواجهه البشرية في تاريخها، ولكنّ ما يميز هذا الوباء أنه الأوّل الذي يأتي في زمن العولمة، أي في زمن صار فيه العالم قرية صغيرة، ومنه يمكن الحديث عن «عولمة الأوبئة».
ما يميّز هذا الفيروس، ليس نسبة الموت التي يسببها، فهو ليس أخطر من «سارس» أو «إيبولا» أو «زيكا»، ولكنّه يختلف عن كل الأوبئة في شكله الإعلامي والتواصلي الذي جعل العالم يعيش على وقعه. فحجم المعلومات المتداولة بشأن كورونا، يتجاوز بمليارات المرات حجم تأثيره الصحي أو تبعاته الصحية والطبية الحقيقية.
إنّ كورونا الحقيقي، هو في حجم المعلومات الهائل، المتداول بين الناس، والذي كانت تبعاته على الحكومات التي اضطرت إلى اتخاذ إجراءات حربية في مواجهة هذا الفيروس، بلغت حدّ فرض حظر التجوال الشامل أو الجزئي، و إغلاق الحدود والعزل الإجباري للمرضى أفراداً أو جماعات، و حتى عزل مدن بأكملها، ووضع كبار مسؤولي الحكومات تحت الإقامة الجبرية الصحيّة، توقياً من انتشار الفيروس. إنه أمر لم يسبق أن حدث حتى في زمن الحربين العالميتين. أَوَليس الأمر بات شبيهاً بعلامات القيامة، حيث ينفر القريب من قريبه والأم من رضيعها، والأبناء من آبائهم؟ إنها حقيقة مشاهد صادمة، عندما نرى الإيطاليين يطلّون من شرفات منازلهم دون أن يقدروا على النزول إلى الشوارع، وهو كذلك أمر صادم، عندما تعلق كل الأنشطة الرياضية و الثقافية، على المستويين المحلي أو الإقليمي، وعندما تتعطل الدراسة في كل أنحاء العالم وتتعطل الدبلوماسية المباشرة، لتعوّض بدبلوماسية الهاتف أو الإيميل. ولسائل أن يسأل، أي عالم سيولد بعد انقشاع غمامة كورونا؟ لقد عاش العالم لحظة شبيهة بالقيامة أو هي مجرّد علامة صغرى من علاماتها، فهل سيعود بعدها للتنافس المحموم والصراعات الدموية التي تحاول كل دولة أن تثبت مدى تقدمها فيها؟ لقد كشف تحدي «كورونا» عن أن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي بلغه الإنسان المعاصر، كان تقدّماً أعرج، فكلّ شيء كان ينجز لتكديس الثروات وتحقيق الأرباح الطائلة في مسار مادي عرفته البشرية منذ تنفّذ المنظومة الليبرالية بوجهيها المعتدل والمتوحش، وتم إغفال الجوانب الإنسانية التي تعطي معنى للكائن البشري، وتقرأ حساباً لمثل هذا اليوم، الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون. ذلك أن الخسائر الاقتصادية الكبرى التي خلّفها هذا الوباء هي عظيمة بشكل يدفعنا للتساؤل عن معنى تلك اللهفة البشرية على تكديس الثروات؟ ثم أليس من المنطقي التساؤل اليوم عن أهمية تلك الأسلحة التي طورها الإنسان، والتي يوجهها لصدر أخيه الإنسان، بينما تعجز مختبرات العالم وكل تلك الترسانات الهائلة من السلاح المعلنة والمخفية، عن مجابهة كائن مجهري؟
إن على العالم المترجرج اليوم في مجابهة هذا الفيروس الخبيث، أن يعيد تقييم مسار الحداثة الذي سلكه الإنسان منذ نحو ثلاثة قرون من الزمان، وأن يعيد تقييم منجزاته العلمية وأن يعيد ترتيب الأنساق العلمية والثقافية والقيمية التي سادت طوال قرون الحداثة. إن الغرور البشري، المستند إلى فتوحات علمية وحضارية، لا يمكن إنكارها، بات من الواجب مراجعته اليوم، في اتجاه تعديل سلوك بشري كلّي، في شقّيه الفكري والسلوكي.
إنّ عالم ما بعد كورونا يجب أن يكون غير ما قبله، وإلا فإنّ الإنسانية جمعاء ستسير إلى حتفها الذي لن يتأخر كثيراً. لقد برهنت الشعوب عن نوع من الوعي الذي يمكن البناء عليه، فإن كان التضامن اليوم غير مباشر، بسبب الإجراءات الصحية العالمية فإنّ هناك نوعاً من التضامن والتواصل الذي يمكن البناء عليه للمستقبل. لكن هذا لا يجب أن يشهد انتكاسة بعد نهاية أزمة كورونا، بل يجب أن يتم البناء عليه لمستقبل مختلف عما كان عليه. إن عملية الترجرج أو الاهتزاز التي عاشتها البشرية، وعلى رعبها، لا بدّ أن تجعل العالم يستيقظ من نشوته الزائفة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"