عدالة المكان في المجتمعات المعاصرة

05:12 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

ليس هناك مكان عادل وآخر ظالم بشكل مطلق، ولكنّ هناك فروقاً تحسمها مستويات التنمية التي تعمل على توفير أمكنة أحسن وأفضل للناس.
نتحدث في الغالب في السياقات السياسية عن العدالة في صلتها بالمؤسسات القضائية، كما ننظر إلى العدل بوصفه خاصية ما هو متطابق، إما مع القانون الوضعي والتشريعات المرتبطة به، وإما مع القانون الطبيعي ومع مقتضيات الإنصاف، وقد تذهب بنا التفريعات النظرية إلى الخوض في قضايا العدالة من حيث صلتها بالأخلاق والفضيلة وبالسلطة في سياقاتها المتعددة. ولكننا في المقابل لا نفكر بشكل جديّ في الصلات التي تربط العدالة بالفضاءات وبالأمكنة وبجغرافية التجمعات البشرية، فالمكان يمكنه أن يتصف بالعدل أو بالظلم بحسب السياقات المحلية والإقليمية والدولية التي تطبع علاقة الإنسان ومواطني الدول بالمكان كفضاء جيوسياسي.
يحاول جاك ليفي في كتابه الموسوم: «نظرية العدل المكاني وجغرافية العدل والظلم»، أن يقدم عناصر غير مألوفة للصلات التي تربط المكان داخل المدن وخارجها بالعدل والظلم، ليوضح بشكل لافت الظروف والشروط التي يمكن فيها للمكان أن يكون عادلاً بالنسبة لقسم من السكان وظالماً لفئات أخرى.
ولا يتعلق مفهوم العدل هنا بعملية إعادة توزيع الثروة لخلق وضعيات عادلة بين الأفراد، لأن فلسفة المكان تفرض علينا إنجاز مقاربة مغايرة للعدل ولتوزيع الخيرات المشتركة، تتجاوز تلك العلاقة البسيطة التي تربط بين الحاكم والمحكوم أو المانح والممنوح؛ إذا أنه وفي سياق التحولات العالمية التي تشهدها البشرية ومع الحركية الكبرى التي تميّز علاقة الإنسان بمحيطة، أصبح للمكان علاقة متوترة مع كل تجليات وشروط العدالة.
ومن الواضح الآن أن هناك اختلافات كبيرة داخل الدولة الواحدة بين العواصم والمدن الكبرى وبين المدن الصغرى والقرى والتجمعات السكانية المعزولة، كما أن هناك أيضاً اختلالاً في التوازن ما بين حياة السكان في وسط المدن وخارجها في الأحياء المحيطة التي يشعر أفرادها بالإقصاء والتهميش. ويمكننا أن نتساءل في هذا السياق عن الخصائص والشروط العادلة التي يخضع لها توزيع أماكن إقامة المستشفيات والمدارس وكل المنشآت التي من شأنها أن توفر خدمات منصفة لكل السكان بناءً على خريطة مدروسة بشكل جيد، تأخذ في الحسبان حاجيات ومتطلبات كل السكان بالشكل الذي يكون فيه أكبر قدر من الناس على مسافة متقاربة من أماكن تقديم الخدمة العمومية، لاسيما وأن الأفراد ينظرون في أحايين كثيرة إلى هذا التوزيع انطلاقاً من تصورات ذاتية، فهم يفضلون على سبيل المثال أن تكون عيادات الولادة قريبة ويطالبون في المقابل بإبعاد مستشفيات الأمراض العقلية والسجون عن أحيائهم السكنية.
ونجد فضلاً على ما تقدم معطيات اجتماعية عديدة تتعلق بعدالة المكان ترتبط بالهجرة الريفية وبوضعية سكان الضواحي في المدن الكبرى والأثمان التي يتم دفعها للحصول على سكن أو من أجل تأجيره، وتكلفة النقل والمسافات التي تفصل أماكن العمل عن مكان الإقامة، إضافة إلى العوامل التي تجعل معظم سكان المدن الكبرى والمناطق الصناعية يسهمون بقسط وافر في صناعة الثروة ولا يحصلون في المقابل إلاّ على جزء متواضع منها. أما في دول العالم الثالث فإن المعاناة الكبرى عادة ما تكون من نصيب المناطق القروية المعزولة التي يشعر سكانها بظلم شديد جراء غياب أو ضعف الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم والنقل.
وبالتالي فإن الاختلافات الكبرى التي نلفيها ما بين دول المركز ودول الهامش، تخلق وضعيات غير عادلة إلى حد بعيد بين سكان يملكون حق اتخاذ القرارات المتعلقة بتحديد مصائرهم وسكان آخرين يضطرون في معظم الحالات إلى الانصياع للقرارات التي يتم اتخاذها في أمكنة بعيدة، كما تؤثر الفروق ذات الصلة بالمكان في قيمة الأشياء والخدمات التي يحصل عليها المواطن، ويسهم هذا الاختلاف في تزايد الهجرة نحو العواصم والمدن الكبرى بحثاً عن امتيازات وخدمات أفضل، لاسيما في عصر العولمة المتميز بحركية غير مسبوقة يحاول الأفراد من خلالها الانتقال نحو أمكنة أكثر عدلاً وإنصافاً.
ويمكن القول إن التغيرات التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، أدت إلى انقلابات في معايير علاقة الإنسان بالمكان، حيث بدأ قسم كبير من دول الجنوب يحلمون بالعيش في دول الشمال، كما أن التغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية تجعل مناطق شاسعة من إفريقيا وآسيا تتحول تدريجياً إلى أراضٍ قاحلة يصبو سكانها إلى العيش في أماكن تتمتع بطقس معتدل لاسيما في الدول التي لا تملك قدرات اقتصادية تسمح لها بتوفير خدمات عامة تساعد مواطنيها على تحمل الأجواء القاسية للمناخ.
ونستطيع أن نستنتج في الأخير أنه لا توجد حتى الآن معايير كونية متعارف عليها بشأن عدالة المكان، نتيجة الاختلافات التي نلفيها على مستوى التصورات بين سكان مختلف الحواضر العالمية الكبرى، ومن ثم فليس هناك مكان عادل وآخر ظالم بشكل مطلق ولكنّ هناك فروقاً تحسمها مستويات التنمية التي تعمل على توفير أمكنة أحسن وأفضل للناس، لأن بحث الإنسان عن عدالة المكان لا يجب أن يقوده إلى حرمان الآخرين من حقهم في المحافظة على فضاءاتهم العادلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"