عرب الخليج والعدوان الثلاثي على مصر

01:47 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

أحيطت الوثائق الرسمية للحكومة البريطانية، بأعلى درجات السرية طوال القرن العشرين، وكان القانون الخاص بحفظ الوثائق والتقارير التي يكتبها دبلوماسيون بريطانيون، عملوا في الدول العربية - على سبيل المثال - لا يسمح بفتح هذه الوثائق لعامة الناس، بمن فيهم الباحثون والمؤرخون والصحفيون، إلا بعد مرور خمسين عاماً عليها.

}} وحذت حذو بريطانيا معظم دول العالم، لكن بعضها خفَّض مدة الحظر المفروض إلى ثلاثين عاماً، وكذلك فعلت بريطانيا في نهاية الستينات من القرن العشرين.
}} ورغم أن هذه الوثائق والتقارير الدبلوماسية السرية، لا يمكن اعتبارها تاريخاً، فإنها تشكل «مادة خام» للتاريخ، وتحتاج إلى تدقيق وتحقيق وغربلة وتحليل ومقارنة، قبل الأخذ بما جاء فيها. وتخطئ مراكز الأرشيف، في عالمنا العربي، إذا اكتفت بترجمة هذه الوثائق والتقارير، وتقديمها للقارئ، على أساس أنها هي التاريخ.
}} بعض هذه الوثائق والتقارير الدبلوماسية البريطانية، فيها الكثير من الأسرار، وبعضها معلول من ناحية حقائق الأوضاع التي تحدثت عنها، وبعضها يرصد أحداثاً تافهة، وأخرى تحمل نظرة سلبية ومتعالية.. إلخ.
}} الباحثون والمؤرخون العرب، انتظروا عقوداً من الزمن للاطلاع على تقارير الدبلوماسية البريطانية، وعلى وثائق وتقارير دبلوماسية دولية أخرى، بحثاً عن حقائق تاريخية، أو سعياً لمعرفة سياسات واستراتيجيّات دول كانت عظمى، وكان لها تأثيرها في أوضاع دول المنطقة العربية.
}} لم يكن (جوليان أسانج) الأسترالي، قد ولد بعد، حينما تقرر خفض مدة الحظر المفروض على وثائق وتقارير دبلوماسية، لكن هذا الصحفي والمبرمج، والمولع بأجهزة الكمبيوتر والرياضيات، عمل في عقد التسعينات على تطوير نظم التشفير، وأسس في عام 2006 موقع «ويكيلكس»، لينشر بعد ذلك وثائق دبلوماسية أمريكية سرية حول الحرب في أفغانستان والعراق، وتمكن من أن يكشف للعالم أكثر من مليون وثيقة سرية، والتي عجزت الصحافة والمؤرخون والساسة عن كشف عُشرها، على مدار عشرات السنين.
}} ما زال موقع «ويكيلكس»، يكشف الغطاء عن أسرار وتقارير، تُسلّي البعض منّا، وتحرج أو تغيظ البعض الآخر، وتنبّه إلى أهمية حفظ اللسان والأوراق، وإخفاء النوايا، وتكشف أستاراً.. تحسب أنها مستورة.
}} في نهاية ثمانينات القرن العشرين، أفرجت بريطانيا عن وثائق دبلوماسية، تعود إلى أواسط الخمسينات.. ومن بينها، وثائق متعلقة بمنطقة الخليج العربي، حينما كان المقيم السياسي البريطاني، ما زال في مقرّه في البحرين.
}} وقد اطلعت على عدد من هذه الوثائق، والتي ترجمها الدبلوماسي العراقي السابق، (نجدة فتحي صفوة)، ونشرها الناشر رياض الريّس في لندن. ومن بينها الوثيقة التي كتبها المقيم السياسي البريطاني (من وجهة نظره) حول ردود الفعل الشعبية الخليجية تجاه العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956.
}} استيقظ الناس في المدن والقرى العربية في الخليج، ذات صباح من نومهم في أول يوم من أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1956، ليسمعوا أن عدواناً بريطانياً فرنسياً «إسرائيلياً» قد جرى على مصر، وكانت إمارات أو مشيخات دول الخليج العربية، لا تزال تحت «الحماية» - الهيمنة البريطانية.
وقد انتاب ممثلي بريطانيا في المنطقة، القلق من ردود الأفعال الشعبية ضد هذا العدوان الثلاثي، فاستعانوا بقوات الجيش البريطاني، للحيلولة دون توسع أية انتفاضات شعبية. كما تم اعتقال كثير من المواطنين الذين قادوا التظاهرات، وطالبوا بمقاطعة الدول المعتدية على مصر.
}} ويشير تقرير رفعه المقيم السياسي البريطاني في البحرين، في ذلك الوقت، السير باروز، إلى وزير الخارجية سلوين لويد في الثالث والعشرين من نوفمبر 1956، إلى ردود الفعل الشعبية في البحرين والكويت وقطر وإمارات الساحل وعُمان.
}} ففي البحرين، يذكر التقرير أن تلاميذ المدارس، خرجوا من مدارسهم يهتفون ضد الاستعمار. وقامت مجموعات عمّالية بحرينية بمهاجمة مجمع سكني في المحرق، تستأجره شركة الطيران البريطانية، وقد واجهت الشرطة صعوبة في تفريق المتظاهرين، رغم استعمال الغازات المسيلة للدموع، ووصلت مجموعة من قوات (الكاميرون) البريطانية من عدن. وقد شجب حاكم البحرين العدوان الثلاثي على مصر، وأرسل الحاكم رسالة إلى المقيم السياسي البريطاني يستفسر فيها «لماذا لم تتخذ الحكومة البريطانية أي إجراء ضد الجيش «الإسرائيلي»؟». وقام عبد الرحمن الباكر، سكرتير لجنة الاتحاد القومي، بالدعوة إلى إضراب عام، ونظّمت مسيرات وتظاهرات عنيفة، أشعلت عدة حرائق في مكاتب شركات تجارية بريطانية، وأصدرت لجنة الاتحاد القومي بياناً دعت فيه إلى مقاطعة البضائع والسفن البريطانية والفرنسية.
وتم فرض حظر التجول، واعتقال عدد من قادة التظاهرات، ومن بينهم إبراهيم فخرو، وعبد العزيز الشملان، وأغلقت أسواق المنامة والمحرق، وتدخلت قوات المشاة الملكية التي وصلت من عدن، في فض المسيرات الشعبية. كما قررت حكومة المملكة العربية السعودية، إظهار تعاطفها مع مصر، بقطع ضخ النفط الخام من البرّ السعودي إلى مصفاة (سترة).

}} ويتحدث التقرير الدبلوماسي البريطاني أيضاً عن ردود الأفعال الشعبية في الكويت، «حيث تصاعدت حركة التضامن مع مصر، وشملت الإضراب العام في الأسواق والمدارس، وجمع التبرعات لمصر، وتسجيل المتطوعين للدفاع عن مصر، والمطالبة بإلغاء العقود مع الحكومة البريطانية، ومقاطعة البضائع البريطانية والفرنسية، وشركات التأمين، وتحويل أموال الحكومة من البنك البريطاني للشرق الأوسط إلى بنك الكويت الوطني».

}} ويشير التقرير، إلى أن جمع التبرعات قد نظّم على أساس شبه رسمي، وبواسطة استقطاع من رواتب الموظفين، وقد وصل إلى نحو مليون جنيه استرليني، واستقال قائد الشرطة جاسم القطامي من منصبه، ثم حذا حذوه ثلاثة عشر ضابطاً كويتياً.
}} أما في قطر، فيتحدث التقرير الدبلوماسي البريطاني، عن أن نجل الحاكم الشيخ أحمد، كان منزعجاً وغير راضٍ عن السياسة البريطانية، وبدا مقتنعاً، «بوجود تواطؤ بين حكومة جلالته و«إسرائيل»»، وعلى المستوى الشعبي، فقد أغلقت أسواق الدوحة، وقطع أنبوب النفط على بعد أحد عشر ميلاً شرقي (أم باب)، واتهمت السلطات البريطانية السيد/ حميد العطية بهذا العمل التخريبي، كما أضرب عمال ومهندسون لبنانيون يعملون في شركة الدرويش، وعمال شركة نفط قطر، وقد سجل فلسطينيون ولبنانيون وقطريون أسماءهم للتطوع دفاعاً عن مصر، وتم اعتقال حميد العطية وشقيقه.
}} وفي دبي والشارقة، كان الجو العام متوتراً، وجرت محاولات لحرق (كراج) مساعد الوكيل السياسي البريطاني في دبي، ومحاولة أخرى جرت في مطار الشارقة (المحطّة)، ويقول التقرير: «ليس من المعروف من هو المسؤول عن هذه العملية، على الرغم من أن اختيار الهدف يوحي بأنه كان من تدبير جماعة مثقفة وواعية نسبياً». ومن الجدير بالذكر، أن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، قد ذكر في مذكراته، أنه كان وراء هذا الحريق.
}} ويشير التقرير إلى أن المحرضين على الإضراب في الشارقة ودبي، هم من المدرسين المصريين والأردنيين، وقد جرى خلال هذه التظاهرات نزع العلم البريطاني من سيارة الوكيل السياسي، وقد تم استدعاء جنود من «كشافة عُمان الساحلية»، لفض هذه التظاهرات، ولم تقع حوادث، ربما نتيجة تأثير حاكم دبي على التجار والوجهاء، ويقول التقرير: «إنه تم تخويل الوكيل السياسي، بصرف مبلغ خمسة عشر ألف روبية لنفي أو تسفير المشاغبين المدنيين والباكستانيين والسعوديين، الذين صاروا يمارسون مؤخراً، نفوذاً شريراً على البسطاء من سكان هذه المدن».
}} أما ردّ الفعل في مسقط «فقد كان مناقضاً لجميع المشيخات الأخرى، رغم أن «إسرائيل» مكروهة هنا في مسقط - كما يقول التقرير - لكن مسقط تبقى نسبياً غير متأثرة كثيراً بالدعاية القومية العربية، إضافة إلى أن أهل مسقط يدركون أن مصر كانت تتآمر (!) بصورة فعالة لإطاحة حاكمهم، وخلق إمارة مستقلة».
ويقول التقرير أيضاً: «إن القنصل الهندي، قام بحملة تبرعات لصالح مصر، وإن العمانيين منزعجون من إذاعة «صوت العرب» المصرية، التي تسمح لأحد أعوان الإمام وهو صالح بن عيسى، بالتحدّث فيها».

}} نعم... قبل ستين عاماً... كان التضامن الخليجي العربي مع مصر، قوياً وتلقائياً، واليوم هو أيضاً في أعلى درجاته، من أجل أن تظل مصر.. «مصر التي في خاطري».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"