عندما تسقط الدولة المركزية

04:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

يسقط بلد عربي آخر هو ليبيا في وهدة العنف . لا يبدو هذا البلد متأثراً بما حوله . من تونس إلى الجزائر وحتى إلى مصر . ظلام يكتنف هذا البلد، قبل عام من الآن كانت هناك آمال بأن يتقدم . وبينما الثورات تتغذى من المستقبل فإن شطراً كبيراً من الثوار لا يصوبون أنظارهم إلا إلى الوراء .

الثورية اللفظية التي تضمر الديكتاتورية والطغيان والتي تسفر عن العنف الرسمي وازدراء القوانين في عهد القذافي، تتجدد على أيدي بعض الثوار: ممنوع قيام دولة، ممنوع نشوء أحزاب، ممنوع تصدير النفط إلا إذا كان لمصلحة ميليشيات، وحتى ممنوع أن ينعم الناس بحياة طبيعية .

ظهر أخيراً ممنوع آخر، يتعلق بوحدة البلاد . برقة شرق البلاد تعلن الانفصال العملي تحت عنوان ليبيا دولة موحدة . . وتشكّل حكومة وقوة دفاع وتشكيلات إدارية تضم أربع محافظات في: بنغازي وأجدابيا والجبل الأخضر وطبرق، وقريباً تجرى انتخابات فيها . هذا ما قررته ونفذته حركة شباب برقة استناداً إلى دستور عام 1951 على ما قال عبدربه عبدالحميد البرعصي رئيس المكتب التنفيذي لحكومة الولاية . ما يذكره التاريخ أن ليبيا كانت بالفعل دولة موحدة قبل ستين عاماً وبعد الاستقلال وأن اسم البلاد الرسمي كان المملكة الليبية المتحدة، وأن التوجه إلى الفيدرالية يتطلب توافقاً عاماً بين الشعب، أي إرادة شعبية تتجسد في دستور أولاً، وقيام حكومة مركزية تستظل بها حكومات الولايات، وهو أمر غير قائم في ليبيا الممزقة بين الميليشيات والقبائل وأمراء الثورة . والحال أن خطوة كهذه تعيد البلاد إلى ما قبل الاستقلال، وليس إلى ما قبل عهد القذافي . وهو إجراء نكوصي وارتداد إلى الوراء، يعيد التذكير بما اقترفه القذافي بتكريس الوحدة السياسية والسيادية للبلاد، ولكن مع الإطاحة بدولة المؤسسات وازدراء القوانين .

التوجه الانفصالي والتقسيمي غير خاف في هذا الإجراء أحادي الطرف . فبعد التلويح بالفيدرالية والتأكيد الشعاراتي بأن ليبيا دولة موحدة، لم يلبث الرئيس الفعلي لحكومة برقة البرعصي أن أعلن يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن إقليم برقة يتجه لإعلان دولة جديدة محاذية لمصر مطمئناً الجيران في مصر حول أمن الحدود . وأوضح البرعصي في حديث لصحيفة مصرية الوطن قائلاً: لا نتمنى إنشاء دولة جديدة ولكن إذا رأينا ما يدعو إلى تكوين دولة مستقلة ولم تسر الأمور بشكل طبيعي فسنتجه إلى إعلان دولة مستقلة .

وبينما اعتبرت الحكومة الليبية برئاسة علي زيدان أن أصحاب إعلان برقة لا يمثلون إلا أنفسهم، فقد تحداهم البرعصي ناعتاً الحكومة في طرابلس بالضعف والشلل .

ومما يسترعي الانتباه أن الميليشيات المعروفة بالجضران التي تسيطر على منتجات النفط في الإقليم (60 في المئة من عموم الإنتاج النفطي الليبي)، لا يقوم تنسيق حتى تاريخه بينها وبين حكومة برقة . وهذا الواقع المتشظي يرسم سيناريو محتملاً لمستقبل البلاد بأن ينشأ واقع تقسيمي في البلد، أو أن يقوم نزاع مسلح داخل الإقليم مع الميليشيات المسيطرة على إنتاج النفط بموازاة نزاع آخر مع الحكومة المركزية في طرابلس، وهو أمر لا يطمئن الليبيين ولا الجيران .

يحدث ذلك كله وسط موجات متتالية من العنف تستهدف خصوصاً رجال العهد الجديد، وتغرق البلاد في الخوف والظلام، مرفوقة بحالة شلل اقتصادي وعدم تمكن السلطة المركزية في طرابلس من السيطرة على قطاع إنتاج النفط، وعزوف المستثمرين، وارتفاع هائل في كلفة المعيشة، ما يدفع البلاد إلى المجهول .

إن من حق الثوار كما سائر الليبيين أن يختاروا ويتوافقوا في ما بينهم على طبيعة النظام السياسي الجديد الذي يرتضونه لأنفسهم ولبلادهم، فقد قامت الثورة بالفعل لتحرير إرادة الليبيين التي صودرت طوال أربعة عقود . وهو ما يتطلب إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وإجراء انتخابات برلمانية ومحلية، واللجوء حين الاقتضاء إلى الرأي العام عبر استفتاءات تراعي المعايير الدولية لتحديد الخيارات المستقبلية، وقد جرى بعض ذلك كما في الانتخابات النيابية، ما أثار الأمل بتعافي هذا البلد وتداركه لما فاته، غير أن انتكاسة إلى الوراء لم تلبث أن وقعت، فقد انتقلت السلطة على الأرض ليس إلى الشعب والقانون، بل إلى أيدي حملة السلاح . وبدل أن تنشأ سلطة جديدة تجسد أهداف الثورة فقد نشأت سلطة أمر واقع، فقد أصبح الثوار ومن يتحالف معهم من قوى قبلية ومن رموز مناطقية هم وحدهم أصحاب القرار . فما الذي تغير اذاً على الليبيين، وأين هي الديمقراطية الموعودة والمشاركة المنشودة؟

يحدث ذلك كله وسط موجات متتالية من العنف تستهدف خصوصاً رجال العهد الجديد، وتغرق البلاد في الخوف والظلام، مرفوقة بحالة شلل اقتصادي وعدم تمكن السلطة المركزية في طرابلس من السيطرة على قطاع انتاج النفط، وعزوف المستثمرين، وارتفاع هائل في كلفة المعيشة، ما يدفع البلاد إلى المجهول .

في ضوء ذلك لم يبق من خيارات سوى أن تعزز الحكومة المركزية بالتعاون مع البرلمان المنتخب سلطاتها، وأن تجد حلاً متوافقاً عليه لمسألة الميليشيات في العاصمة طرابلس، إذ يصعب مواجهة واقع تقسيمي بحكومة مشلولة ومع تنازع السلطات على الأرض في العاصمة، وسوى ذلك فإن التقسيم مثله مثل الميليشيات قد يتحول لا سمح الله إلى أمر واقع .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"