عن الجدران والجسور

04:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
لم يعد السؤال مطروحاً، فيما إذا كان الحوار بين أهل الأديان، والمعتقدات المعتبرة، ضرورياً أو نافعاً أو ممكناً . ولت الأزمنة، التي كان فيها الحوار، مجرد زينة تختفي تحتها أجندات ونوايا سياسية، واختفى الاعتقاد بأن الحوار هو شكل من أشكال التوفيق الديني بين الديانات والمعتقدات، وأسميته في بعض اللقاءات الأولى للحوار في مطلع ثمانينات القرن الماضي "تلفيقاً لا توفيقاً" . وتراجع من كان يعتبر الحوار وسيلة "للدعوة" أو "التبشير" .
اليوم . . . في ظل هذه التغيرات الجارفة، وصعود منسوب الغلو والتطرف والاقصاء في المجتمعات الدولية . - لا نستثني مجتمعاً - لا يوجد بديل عن الحوار، إلا المشروع الإقصائي للآخر المغاير، بما يحمله من نذر وخيمة على كل عناصر المجتمع . . أي مجتمع .
الحوار، هو أحد مقاصد الشرع الكبرى في هذا الكون، يتوخى معرفة الآخر، ويتفهم المغايرة والاختلاف، ويتعاون في سياق العيش المشترك . وفي جو من الاحترام المتبادل، والمعاملة بالتي هي أحسن، بعيداً عن نوازع التجريح والتشكيك .
والتنوع أو الاختلاف، هو عامل إثراء وإبداع، على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، والمهم في هذا الأمر، هو حُسن إدارة هذا التنوع أو الاختلاف، والاستجابة للتطور والاغتناء بالتفاعل بين المختلفين .
في حوار "الطاولة" المستديرة، الذي نظمته وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في أبوظبي، قبل أيام، والذي شارك فيه مسلمون ومسيحيون وهندوس وسيخ وآخرون، من مجتمعات مختلفة، وافتتحه الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان . ناقش المشاركون مسألة الحوار بين الأديان، ودور هذا الحوار في قضايا الحرية والتنمية الاقتصادية، وعرض الشيخ نهيان تجربة الإمارات في التعايش بين أتباع الديانات والأعراق المختلفة، وهي التجربة التي سيناقشها مؤتمر عالمي سيعقد في بريسبين الأسترالية في نوفمبر القادم، بالتزامن مع مؤتمر مجموعة العشرين الاقتصادية .
في هذا الحوار، استحضرت أعياد الفصح أو القيامة، وكنيسة المهد في بيت لحم، والتي بنيت في الموقع الذي ولد فيه عيسى ابن مريم عليه السلام، وهي الكنيسة التي أمر بترميمها المغفور له الشيخ زايد في إبريل 2002 . بعد أن أُصيبت بأضرار جسيمة من قبل جيش الاحتلال "الإسرائيلي" (زعيم مسلم يرمم كنيسة) واستحضرت أيضاً، كنيسة القيامة، حيث صلّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجوارها، ومازال المسلمون يقومون بمهمة فتحها وإغلاقها، وتسهيل أمور العبادة فيها لكل الطوائف المسيحية . وذكرت المشاركين في الحوار، بمدينة معلولا السورية، أقدم بلدة مسيحية قائمة في العالم، والتي لا يزال أهلها يتحدثون الآرامية - السريانية لغة المسيح عليه السلام . وسألت الله أن يُنهى آلام البشرية، ومعاناة المظلومين وفقراء الأرض .
قلقت من سوء فهم، عبّر عنه ممثل الكنيسة الكاثوليكية في منطقة الخليج العربية، لمعنى الحوار بين أهل الأديان في الإمارات، حينما أشار إلى وجود جُدُر بين الناس . حيث إنه لم يلمس حواراً بين الكنيسة وشخصيات دينية إماراتية . وأوضحت للمشاركين . أن الحوار القائم والفاعل، هو حوار "الحياة" . وليس الحوار اللاهوتي، فالأول هو حوار لصالح قضايا الإنسان . ومسائل التعامل مع الآخر بالعدل والبر، وحماية حرية هذا الآخر المغاير، في عقيدته وسكنه وماله وعمله وتنقله وحُسن سمعته . . أي حوار التعايش والاحترام المتبادل، وحفظ كرامة الإنسان .
أما الحوار اللاهوتي، فهو حوار خاص في مكانه وشخوصه وموضوعاته، وينبغي ألا يُترك للعامة أو غير المختصين في شؤونه، ولكل أهل دين أو معتقد أو مذهب، خصوصياتهم الفكرية، والأصل أن يكون تصرف أهل الأديان جميعاً مراعياً هذه الخصوصيات، حريصاً على حفظ حرمة أصحابها، كافلاً لهم حقهم في التعبير المشروع عنها .
ولا يجوز أن يُساء إلى الإنسان، بسبب مذهبه أو طائفته، فالأديان والعقائد، في نظر أصحابها، طرق لطاعة الله وعبادته، والفصل بين أصحابها مرجعه إلى رب العالمين وحده .
وينبغي ألا يخوض أي حوار في خصوصيات دين أو معتقد آخر، وخاصة الخوض العلني الذي ينشر على العامة وجوه اختلافات، لا يستطيعون إدراك أسسها الفكرية والفلسفية .
إن الاختلاف العَقَدي اللاهوتي قديم، وهو دائم بدوام هذا الزمن، والحوار العلني فيه، وبخاصة بعد دخول الجدل والتعصب "التويتري" فيه، لا يؤدي إلا إلى البغضاء والشحناء والفتنة، وتذرر المجتمعات .
لقد خلق الله البشر مختلفين، شعوباً وقبائل، كي يتعارفوا ويتعاونوا ويبحثوا عن المشترك الإيجابي، ويتسابقوا لعمران الأرض وإثراء الحياة الإنسانية .
ولاشك، أن هناك العديد من الصعوبات أمام حوار ناجح ونافع، ومن أهمها: تعاظم الهجرات السكانية، وانتقالها عبر الحدود والثقافات، وانتشار الصور النمطية السلبية لدين عند آخر، مما يغذي ضروب الكراهية الجماعية، والتي تتحول إلى نزاعات وعنف، ومنها أيضاً إشكاليات الأقليات الدينية والعرقية، وارتفاع منسوب العنصرية واليمين المتطرف والغلو، وبروز مفاهيم الهيمنة وإملاء النموذج الثقافي المعولم، وغياب ثقافة التسامح والنزاهة الفكرية، وسياسات الكيل بمكيالين . . .إلخ .
ولا يتحقق الاحترام المتبادل بين أهل الأديان والمعتقدات، إلا إذا طرفاه أراداه، وأقبلا عليه، وهيآ النفوس له . وتوفرت ثقافة سائدة تدعو له، وتتمسك بمبدأ وحدة الأصل البشري، وتُقر مبدأ الاختلاف بين الناس . كأحد سنن الله في الكون، تؤمن بمبدأ كرامة الإنسان .
في أهمية الحوار وضرورته، نحتاج إلى إعادة النظر في مقولات عدة، من بينها في القول إن النصرانية هي ديانة الرجل الأبيض أو ديانة الشمال الغني، وفي الحقيقة، فإن الدنيا تغيرت، فالنصرانية اليوم، في أغلبية اتباعها، هم من الملونين والفقراء، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والفلبين وكوريا الجنوبية والهند وغيرها من الدول الآسيوية، حيث يعيش نحو ثلثي عدد النصارى في العالم، أما المسلمون، فإن ربع عددهم يعيش في مجتمعات غير إسلامية، في الهند وأوروبا والأمريكتين وآسيا الوسطى وإفريقيا، ولعل هذه المتغيرات الديموغرافية، تدعونا جميعاً إلى الحاجة الماسة للتفاهم والتعارف والتسامح واحترام الاختلاف، والعيش المشترك، وتعزيز ثقافة السلام بين الأمم،
في مجتمعاتنا العربية والخليجية بخاصة، نحتاج إلى بث وتعزيز ثقافة الحوار، في تعليمنا وإعلامنا ومؤسساتنا وتشريعاتنا .
كما نحتاج إلى خلق مؤسسات للحوار، وبرامج تفاعل وتبادل في الداخل والخارج، تعمق عوامل المعرفة بالآخر، وتزيل سوء الفهم والصور النمطية، وتبني الثقة المتبادلة، وتفتح العقول والأفئدة على حقائق وثراء التنوع، وعلى قاعدة العدل والحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان .
بالحوار يمكن إثراء الذات أولاً، واكتشاف القواسم المشتركة، والتعاون على البر والتقوى وإعمار الأرض ومحاربة الفساد والظلم، واحترام الاختلاف باعتبار أن التنوع ناموس رباني ثابت .
حينما سألني أحد المشاركين في حوار المائدة المستديرة في أبوظبي، كيف تكتب، ما تكتبه عن الحوار الإسلامي المسيحي، قلت له "أتصور دائماً، أن مسيحياً يقف وراء ظهري، ينظر إلى ما أكتبه، وكأني به يريدني، أن أكتب على الأقل، ما ينصفه ولا يغيظه، وأن أذكر القواسم المشتركة، وأن تبقى حالة الإيمان نقية من آثار التعصب، منزهة عن الشعور بالاستعلاء على الآخرين" .
في مؤتمر بريسبين القادم، . . ينتظر المشاركون فيه، سماع قصة نجاح في الإمارات، وقابلية جيدة للحوار، ورغبة صادقة في تنمية قيم إنسانية تعيد صياغة صور الآخر في إطار من التفهم والتسامح، يحول دون استمرارنا النظر إلى بعضنا بعضاً، من خلال مرآة مكسورة .

د . يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"