عودة الروح أم عودة الوعي؟

05:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

أثار الأديب الكبير توفيق الحكيم جدلاً كبيراً بسبب مواقفه المعروفة تجاه المرأة وحرصه الشديد على المال والتقتير عند إنفاقه، وكل ذلك محتمل ومقبول من فيلسوف متميز هو بحق عصفور من الشرق وهو صاحب يوميات نائب في الأرياف، إلا أن أخطر مواقفه عموماً هي تلك المتصلة بالحقبة الناصرية حيث احتفى به عبد الناصر في خمسينات القرن الماضي، واعتبر أن رائعته عودة الروح هي إحدى إلهامات ثورة 1952 ووسمه بأرفع النياشين، وظل توفيق الحكيم على عهده مع الرئيس عبد الناصر باستثناء المشاركة في بعض المشاكسات الجماعية بعد هزيمة ،1967 وعندما رحل عبد الناصر عن عالمنا نشرت الصحف في أول أكتوبر/ تشرين الأول 1970بكائية حزينة كتبها الحكيم في رثاء الزعيم البطل بل خاطبه قائلاً (اغفر لي يا سيدي الرئيس فيداي ترتعشان وأنا أكتب عنك) وطالب بالاكتتاب من أجل إقامة تمثال لجمال عبد الناصر يوضع فوق القاعدة الضخمة التي كانت موجودة في ميدان التحرير حيث كان الملك فاروق يزمع أن يضع عليها تمثالاً لأبيه فؤاد الأول .

ولكن المدهش حقاً هو أن توفيق الحكيم تحوّل بعد فترة قصيرة لكي يكون واحداً من ناقدي عصر عبد الناصر والرافضين لسياساته، وعند ذلك أصدر كتابه عودة الوعي على غرار عودة الروح منتقداً بشدة عبد الناصر وحكمه وسياسته، في وقت تعرض فيه الزعيم الراحل لحملة شرسة قلبت انتصاراته إلى هزائم وإنجازاته إلى أخطاء، فالسد العالي أفسد المناخ وأضر بخصوبة الأرض المصرية، أما تأميم قناة السويس الذي تعرضت بسببه مصر للعدوان الثلاثي، فلم يكن له مبرر أيضاً، لأن عقد امتياز القناة كان سوف ينتهي طبيعياً عام ،1969 بل وأضاف الكارهون له أيضاً أن قانون الإصلاح الزراعي قد فتت الملكية وأضر بالناتج الإجمالي للزراعة المصرية .

وواضح أن كل هذه النقاط مردود عليها على نحوٍ يفحم كل أعداء العصر الناصري، أقول ذلك بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل ذلك الزعيم الذي كانت رؤاه واضحة ومواقفه حاسمة حتى رفع ثوار 25 يناير 2011 صورته من دون غيره من زعماء مصر العظام وما أكثرهم، وبهذه المناسبة فإنني لا أنتقص من قدر السادات أيضاً فهو (بطل الحرب والسلام)، ولعلي أشير هنا إلى النقاط التالية:

أولاً: إن عصر عبد الناصر كان بحق هو عصر النجوم اللامعة على حد تعبير صائغ وثائق الناصرية محمد حسنين هيكل، فهو ذلك العصر الذي تلا مباشرة الحرب العالمية الثانية حين ظهرت على المسرح الدولي أسماء لامعة من أمثال ديغول وخروشوف ونهرو وعبد الناصر وسوكارنو ونكروما، إنه عصر القيادة الكاريزمية، عصر الجماهير، عصر التحرر الوطني والمد القومي قبل أن ينحسرا معاً تحت وطأة الضربات المتتالية للقوى التي تعودت على السيطرة وأدمنت الهيمنة والتهمت المبادئ التي وضعتها ثم داست بالدبابات على الأفكار التي روجت لها لذلك فإن العصر الناصري هو عصر الكبرياء والشموخ في تاريخنا الوطني الحديث بغض النظر عن النتائج فلقد رحل عبد الناصر والأرض محتلة ولكنه مضى إلى ربه واقفاً يقاوم ببسالة ويدخل في واحدة من أروع حروبنا على الإطلاق وهي حرب الاستنزاف، فالحكم على الزعماء لا يكون بنهاياتهم وحدها ولكن بالشعلة التي أشعلوها لشعوبهم، فنابليون مات مهزوماً سجيناً في جزيرة سانت هيلانه ومحمد علي قضى أيامه الأخيرة بعد اتفاقية لندن1840 حبيساً في إحدى غرف قصره يعاني مرض الخرف، ويشهد رحيل ابنه إبراهيم على حياة عينه كما أن بعض المصريين كانوا يبصقون على عرابي في المقاهي بعد عودته من المنفى ويعتبرونه سبب الاحتلال رغم أنه زعيم ثورة الفلاحين في الجيش المصري .

* ثانياً: إن الذين ينتقدون عبد الناصر ويتحاملون عليه لا يمكنهم تقويمه بمقاييس اليوم ولكن فقط بمقاييس عصره وظروف زمانه والتحديات التي كانت تحيط به والمؤامرات التي كانت تحاك ضده، فالتجريد عند التحليل جريمة أكاديمية، كما أن الهوى لا يجب أن يحكم المؤرخ النزيه الذي يتقمص روح العصر الذي يكتب عنه وينطق بلغته ويفكر بطريقته .

* ثالثاً: ليس من المدهش بعد رحيل عبد الناصر بأكثر من أربعين عاماً أن يتذكره الشباب في التجمعات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية، لأن الرجل وصل إلى قلوب أبناء شعبه واستقر في وجدان هذا الوطن مقاوماً للظلم، رافضاً للهزيمة، منادياً بالعدالة الاجتماعية التي كانت السمة الغالبة في عصره كله، بل إن المشهد الحالي في مصر يذكرنا بعبد الناصر وموقفه من الإخوان المسلمين وكأن التاريخ يعيد نفسه وإن تباينت الظروف واختلفت الشخوص وتغير الزمان .

* رابعاً: إن عصر عبد الناصر هو الذي بلور الشخصية المصرية الحديثة بما لها وما عليها ووضع بلاده على خريطة الريادة في العالمين العربي والإسلامي حتى إن الطريق الذي يصل مطار نيودلهي بوسط العاصمة الهندية هو شارع جمال عبد الناصر كما أن عدداً كبيراً من المؤسسات التنموية والتعليمية في القارة الإفريقية مازال يحمل اسم ذلك الزعيم الخالد كذلك فإن تمثاله في العاصمة اللبنانية شاهدٌ على حب العرب له وتعلقهم به .

* خامساً: إن عبد الناصر عندما يقف أمام محكمة التاريخ هو وغيره من حكام مصر بعد سقوط الأسرة العلوية سوف يكشف عن دور القوات المسلحة في هذا الوطن حاميةً لأرضه ودرعاً لشعبه كالابن الوفي الذي يصد عن أبيه أهوال العصر وخطوب الزمان .

إنني أدعو إلى مصالحة تاريخية فيها اعتراف بأفضال معظم حكام أسرة محمد علي على مصر وتقدير للدور الفدائي للرئيس محمد نجيب، وزعامة عبد الناصر التي لا نظير لها، وحكمة السادات رجل الدولة الفريد من نوعه، وحسني مبارك بما له وما عليه، وأيضا محمد مرسي بسنة واحدة في الحكم غيرت موازين القوى على المسرح السياسي ودفعت الشعب المصري دفعاً إلى ما لم يتوقعه أحد! .

. . رحم الله أديبنا الكبير توفيق الحكيم فلقد اقترنت عودة الروح بعودة الوعي أيضاً! .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"