عولمة وفساد ورياضة و«جيوبوليتيك»

02:49 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
لم يعد سراً حجم رهانات الدول على الفوز بميزة استضافة وتنظيم الألعاب الأولمبية أو كأس العالم لكرة القدم على أراضيها.
وقد صدرت كتب ودراسات كثيرة حول العلاقة بين المال والسياسة والرياضة، آخرها كتاب باسكال بونيفاس «جيوبوليتيك كرة القدم». وتسهم العولمة في انتشار الرياضة التي بات عشاقها في العالم أجمع يتابعون مبارياتها من خلال الشاشات الصغيرة بأنواعها.
وقد كشفت الفضيحة الأخيرة التي أصابت الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) عبر توقيف القضاء السويسري لأربعة عشر من كبار مسؤوليه، ومنهم نائب الرئيس جيفري ويب، في ٢٨ مايو/أيار المنصرم، عن حجم الفساد الذي يعشعش في جسم هذه «الامبراطورية البيزنطية المحرم دخولها» بحسب إحدى الصحف السويسرية.
وشبهات الفساد تحوم حول «الفيفا» منذ وقت طويل، إذ إن المدعي العام الأمريكي ميخائيل غارسيا كان قد أعد تقريراً من ٤٣٠ صفحة يتناول كأسي العالم للعامين ٢٠١٨ في روسيا و٢٠٢٢ في قطر، لكنه لم ينشر. لكن المدعي العام الفيدرالي في بروكلين كيلي كوري، وفي مؤتمر صحفي شاركت فيه وزيرة العدل الأمريكية لوريتا لينش كشف أن استضافة إفريقيا الجنوبية لكأس العالم في العام ٢٠١٠ تحوم حولها شبهة الفساد والرشاوى، وأن أحد مسؤولي «الفيفا» الكبار،جاك وارنر، قبض رشوة في مقابل حصول فرنسا على استضافة كأس العالم في العام ١٩٩٨. وبحسب لوريتا لينش فإن المتهمين استخدموا نفوذهم في «الفيفا» من أجل الاثراء الشخصي. «إنه كأس العالم للغش والفساد» كما أعلنت.
وأضاف ريشارد ويبر المسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية: «اليوم رفعنا البطاقة الحمراء».
وتقول «النيويورك تايمز» بأن هناك عمليات تبييض أموال وسرقات ورشاوى واختلاس تم ارتكابها في العشرين سنة المنصرمة. وقد فتح تحقيق قضائي في سويسرا حيث تمت مصادرة وثائق من مقر«الفيفا» الفخم في زوريخ.
ورغم أن المتهمين يقبعون في الدائرة الضيقة لجوزيف بلاتر رئيس «الفيفا» إلا أنه لم تطله الاتهامات، لذلك بقي مصراً على إجراء الانتخابات في موعدها والترشح لولاية خامسة فاز فيها بعدما وعد بالقيام بعمليات تنظيف داخل “الفيفا”،ثم سرعان مااستقال
ويجدر التذكير بأن «الفيفا»، التي تأسست في ٢١ مايو/أيار ١٩٠٤ أضحت اليوم مؤسسة عملاقة تضم ٢٠٩ اتحادات لكرة القدم أي ما يزيد على عدد الدول المستقلة في العالم.
وكأس العالم هو بقرة حلوب للفيفا التي تفرض رسوماً على كل ما يتعلق بالمباريات، من قريب أو بعيد، مثل حقوق البث التلفزيوني وبطاقات الدخول والماركتنغ والسبونسورينغ (الشركات الكبرى الراعية مثل اديداس وكوكاكولا ونايك وفيزا وغيرها..) وإجازات الماركات (ألعاب الفيديو...إلخ).
وحده كأس العالم في البرازيل أنتج ٤،٨٣ مليار دولار دفعت الفيفا منها ٢،٢٤ مليار إلى المنتخبات المشاركة والدولة المنظمة، والباقي ذهب إلى صندوقها الخاص. هذا الأخير فيه ما يكفي لشراء الكثير من الذمم، بدءاً ببعض النواب في سويسرا نفسها، على ما ذكرت إحدى الصحف السويسرية، حيث نجح بلاتر في الاستحواذ للفيفا على سمة «منظمة ذات نفع عام» ما يعفيها ومموليها من الضرائب.
وبلاتر نفسه يتقاضى راتباً سنوياً مقداره ١٥ مليون فرنك سويسري لا يخضع للضريبة.
من المال والفساد والقضاء انتقلت المسألة إلى الجيوبوليتيك والسياسة.
فالرئيس بوتين دافع بشراسة عن بلاتر لدى استقباله له في الكرملين معتبراً أنه يتعرض لضغوط لمنع حصول كأس العالم في روسيا العام ٢٠١٨، وبأن الاعتقالات في صفوف موظفي «الفيفا» الكبار أتت قبل يومين من انتخاب الرئيس وهذا ليس محض مصادفة لأن الأمريكيين والأوروبيين لا يريدون أن يروا بلاتر مجدداً على رأس المنظمة الرياضية.
وأضاف بوتين بأن «الاعتقالات في سويسرا تبدو غريبة لأنها جرت بناء على طلب الولايات المتحدة وهؤلاء الموظفون ليسوا مواطنين أمريكيين وما ارتكبوه، إذا كان صحيحاً، ليس على الأراضي الأمريكية (..) هذا يمثل خرقاً واضحاً للقانون الدولي ومحاولة واضحة من الولايات المتحدة لتطبيق قوانينها خارج أراضيها». وفي نظر بوتين فإن حالات ادوارد سنودين وجوليان أسانج والفيفا متشابهة وتكشف عن الوسائل غير الشرعية التي تلجأ إليها واشنطن في سعيها لتحقيق أهدافها.
في المحصلة فاز بلاتر على منافسه الوحيد الأمير علي بن الحسين، وكشفت الانتخابات عن شعبيته لدى اتحادات الكرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى الشرق الأوسط (هناك اتحادات عربية صوتت له) ونجاحه في تقديم نفسه على أنه المدافع عن رياضة الفقراء التي يحاول الأوروبيون السيطرة عليها.
لقد أمست هذه الرياضة في قلب الصراع بين الشمال والجنوب أو بين الشرق والغرب.
المفارقة أن الاتحاد الفرنسي صوت له رغم أن الفرنسي ميشال بلاتيني، رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، دعم الأمير الأردني.
والسبب على ما تقول صحف فرنسية أن بلاتر تدبر الأمر كي تفوز فرنسا باستضافة كأس العالم للسيدات في العام المقبل.
وتضيف بأن كل اتحادات الكرة في العالم تمارس الفساد بأشكاله المختلفة أو على الأقل لا يهمها الأمر، وأن كل الدول استخدمت طرقاً ملتوية كي تفوز بميزة استضافة وتنظيم كأس العالم، فما من قديسين في عالم الكرة ولا الرياضة بأنواعها.
بعد ثلاثة أيام على انتخابه فاجأ بلاتر الجميع باستقالته، وهو قرار اعتبره عدوه اللدود بلاتيني «صعباً وشجاعاً لكنه القرار الصحيح». برر قراره بأنه رغم انتخابه لم يحصل على مساندة الجميع في العالم. وعزا المراقبون السبب إلى استشعار بلاتر للخطر يقترب منه بعد توقيف ذراعه الأيمن الفرنسي جيروم فالك، الرقم الثاني في «الفيفا» بتهمة تلقي الرشوة، واستدعاء مكتب التحقيقات الاتحادي له للتحقيق معه. ويمكن القول بلغة الجيوبوليتيك إن الغرب انتصر على روسيا في هذه القضية وتحقق قَسَم رئيس الاتحاد الإنجليزي بأن بلاتر لن يكمل ولايته.
الحقيقة أن المشكلة ليست في الأشخاص بقدر ما هي في
ثقافة فساد استقرت في كل المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية وغيرها في عالم تعصف به رياح النيوليبرالية المتوحشة المتعولمة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"