فلسطين والنخب اليهودية

03:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
يستمد الحديث عن النخب اليهودية وعن موقفها من القضية الفلسطينية مشروعيته من المفارقة التي تميز مواقف هذه النخب فيما يتعلق بالحديث عن الحق في الاختلاف والدفاع عن حقوق الإنسان، وحق الشعوب في المساواة والديمقراطية وحرية المعتقد، مع الإيمان في اللحظة نفسها بما يسمى بالاستثناء الذي تمثله "إسرائيل" في تعاملها مع محيطها العربي - الإسلامي . لقد بحّت أصوات النخب اليهودية وهي تدافع عما تصفه حق الشعوب ومنها الشعوب العربية في الحرية والمساواة والديمقراطية، لكنها تخاذلت عندما كان الأمر يتعلق بحق الشعب الفلسطيني في الحصول على الحرية والاستقلال، وغاب دفاعها عن حقوق الإنسان عندما كان الأمر يتعلق بارتكاب "إسرائيل" لجرائم ضد الإنسانية في غزة وغيرها، بل إن الأمر تحول إلى ما يشبه المهزلة عندما سعت هذه النخب للدفاع عما تسميه "حق" هذه الدولة في الدفاع عن نفسها ضد "الإرهاب" الذي تمارسه "حماس"، وسكتت عن المجازر الفظيعة والإبادة الجماعية التي كان يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني .
ونحن لا نريد هنا، أن نعمِّم، في كل الأحوال، هذه الحالة أو الوضعية الفصامية على كل المثقفين اليهود، فقد أبدى بعضهم مواقف جد مشرفة بشأن الثوابت العربية وبخاصة ما تعلق منها بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ولعل نعوم شومسكي يشكل الاستثناء والمثال الأكثر دلالة في نضاله ضد كل أشكال الهيمنة والاستعمار بما فيها الاستيطان اليهودي للأراضي الفلسطينية . وقد استطاع هذا المثقف اليهودي أن يفضح الممارسات الصهيونية المعتمدة على الدعم غير المشروط من الإدارة الأمريكية، واستطاع أن يتجاوز الحصار الإعلامي الذي ضُرب على مواقفه وأفكاره وتمكن من إحراج قادة البيت الأمريكي ومعهم قادة تل أبيب في مناسبات عدة رغم التهميش الذي مورس ضده من طرف المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، وهذه الفئة من المثقفين اليهود التي ينتمي إليها شومسكي والتي تمثل ما يوصف باليسار اليهودي، تُنعت في الأغلب من قبل يهود "إسرائيل" ويهود الشتات، بأنها عنصرية ومعادية للسامية، لمجرد أنها تمتلك الجرأة الكافية في انتقاد الممارسات القمعية التي يقوم بها قادة تل أبيب ضد الشعب الفلسطيني الأعزل . وهناك، في الجهة المقابلة، مثقفون يهود يحاولون إمساك العصا من الوسط من خلال إبراز تمسكهم بدولة "إسرائيل" التي يعتبرونها ملاذهم الأخير في حال انتشار المشاعر المعادية للسامية في أوروبا والعالم، ويرون أن دعمهم لهذه الدولة يظل مستمراً لكنه يجب ألا يُنظر له، وكأنه دعم غير مشروط لأن هؤلاء المثقفين يريدون المحافظة على الطابع "الكوني" و"الإنساني" لأفكارهم ويعبّرون - على الأقل - من خلال وسائل الإعلام عن رفضهم للقوة "المفرطة" التي يستعملها الجيش "الإسرائيلي" ضد الشعب الفلسطيني .
بيد أن المشكلة في كل ذلك هو أن الاستثناء لا يلغي القاعدة، حيث إن القسم الأكبر من الأنتليجينسيا اليهودية تناضل من أجل الإبقاء على ما يسمى الخصوصية "الإسرائيلية" فيما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان، وكان لافتاً أن المثقفين اليهود في فرنسا رفضوا مؤخراً وبقوة، مبادرة البرلمانيين الاشتراكيين من أجل مطالبة الحكومة الفرنسية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذهب الكثير منهم إلى حد القول إن هذا الاعتراف، إن حدث، سيمثل دعماً مجانياً ل "الإرهاب" الذي تمثله حركة حماس في قطاع غزة، وكتب برنار هنري ليفي، الذي لُقب في فرنسا بعرّاب الثورات العربية، مقالاً يعدّد فيه ما يعتبره أسباباً وجيهة تحول دون المبادرة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، من منطلق أن قسماً معتبراً من هذه الدولة يرفض في الأصل مبدأ وجود دولة يهودية، كما هو الشأن بالنسبة للتنظيمات الإسلامية .
ونعتقد في هذه العجالة أنه لا يمكن في كل الأحوال لمثقف يهودي أن يكون إنسانياً وكونياً، وصهيونياً في اللحظة نفسها، لأن الصهيونية ليست في واقع الأمر سوى أيديولوجيا شمولية تتنافى بشكل مطلق مع مبادئ المساواة والحرية والديمقراطية، بل هي كما نصّت على ذلك إحدى لوائح الأمم المتحدة في السبعينات من القرن الماضي، شكل من أشكال العنصرية، وبالتالي فلا شك أن الدولة التي تتبنى مقولة "شعب الله المختار" بوصفها أيديولوجيا مهيمنة على كل مؤسساتها، لا يمكنها أن تؤمن بالديمقراطية والمساواة والحق في الاختلاف . وهذا التماهي أو التطابق ما بين الصهيونية والشمولية أو النزعة "التوتاليرية" هو الذي دفع الفيلسوفة اليهودية حنة أرنت إلى تطليق الصهيونية بعد أن كانت قد انضمت إليها لأسباب تتعلق بممارسات هتلر ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فقد فهمت أرنت في وقت مبكّر أي منذ مرحلة الأربعينات، أن تحوّل فكرة الصهيونية إلى برنامج سياسي يجعل منها آلة شمولية وقاتلة تخطط للإقصاء الكامل والإبادة الشاملة لكل مواطن عربي فلسطيني . ونبّهت أرنت بشكل لا لبس فيه، إلى أن الصهيونية تستعمل فكرة معاداة السامية من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستندت في ذلك إلى مقاطع من تصريحات منظّر الحركة الصهيونية تيودور هرتزل . وتحدث في السياق نفسه إدغار موران عن الممارسات الصهيونية التي تعتمد على توظيف أسطورة المحرقة من أجل توسيع النشاط الاستيطاني في فلسطين، وبالتالي فإن فكرة "الهلوكوست" أو المحرقة تعبّر - في رأيه - عن رغبة النخبة الصهيونية في توسيع دائرة ما يمكن تسميته بالهوس المتعلق بالمركزية اليهودية أو المركزية العبرية التي تسعى إلى أن تجعل من المذبحة اليهودية الشكل الوحيد والمطلق للبربرية والفظاعة في كل تاريخ الإنسانية .
ونستطيع القول إن المشكلة الكبرى التي ستظل تطارد الأغلبية الكبيرة من النخب اليهودية هي تلك الازدواجية في الخطاب عندما يتعلق الأمر بالدفاع عما يسمى أمن "إسرائيل"، فالمؤلفات والأطروحات النظرية لهؤلاء المثقفين تُظهر على السطح مبادئ إنسانية وقيماً في غاية السمو والإشراق، أما مواقفهم السياسية المباشرة المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني، فيغلب عليها الطابع العنصري الذي يرفض أن يساوي بين معاناة البشر، حتى تظل أسطورة اليهودي المستضعف راسخة في الأذهان وقابلة للاستثمار السياسي في كل مناسبة .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"