في المسألة المصرية

02:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقى
كتب صبحي وحيدة، رئيس اتحاد الصناعات المصرية، في أربعينات القرن الماضي كتابه الشهير «المسألة المصرية»، واخترق الرجل برؤية بعيدة الغيوم الكثيفة التي كانت تحيط بمصر حينذاك، ورأى من خلالها تصوراً لمستقبل هذا الوطن، ومازال هذا الكتاب عمدة في نوعه وفرعه، ونكتب اليوم عن«المسألة المصرية» على قياس ما عرفناه في التاريخ عن «المسألة الأوروبية» أو غيرها من القضايا ذات الطابع الجماعي الذي يستحق الدراسة، وها نحن نتلمّس طريقنا لفهم أبعاد «المسألة المصرية» وآفاقها المختلفة، فمصر ليست بلداً غنياً، ولا بلداً فقيراً، ولا بلداً صغيراً، ولا بلداً كبيراً ولا بلداً متقدماً ولا بلداً متخلفاً، إنها كل ذلك في آن واحد، دعنا نستعرض بمنطق بحثيّ، الدلالات المرتبطة بذلك:
أولًا: إن مصر دولة تتمتع بفرادة عجيبة تجعلها محط الأنظار. فعلى أرضها يقبع تراث حضاريّ ضخم، لا نكاد نجد له نظيراً في أي دولة أخرى، «فمصرالفراعنة» و«الإغريق» و«الرومان» و«العرب» أدت كلها إلى تلك الفرادة وتشكيل نوعية خاصة لشخصية متميزة ترتبط بمفهوم التراث وقيمته.
فالعرب حين هبطوا عاصمة مصر القديمة رأوا المعابد الضخمة وظنوها قصوراً، ومن هناك جاءت تسمية «الأقصر»، كما أن كلمة «الأمصار» هي جمع كلمة «مصر». فالعالم عرف الدولة الأولى على أرضها كما أن «المصاري»، أي النقود ارتبطت باسم «مصر»، ذلك الاسم الذي ورد في العهدين «القديم» و«الجديد»، وجاء ذكره مرات عدة، مباشرة، أو بالإشارة إليه في «القرآن الكريم» لذلك فإن «المسألة المصرية» تبدأ من القيمة التراثية لذلك البلد الإفريقي العربيّ صانع الحضارات وملتقى الثقافات.
ثانيًا: إن العبقري الراحل جمال حمدان، مؤرخ الجغرافيا ومتذوق التاريخ، وضع يده مباشرة على مصادر القوة في مصر، وجعل عبقرية الزمان والمكان محور ارتكازه الذي ينطلق منه لفهم التكوين الحضاري والشخصية المتميزة للكنانة.
وهذه نقطة جديرة بالتأمل لأنها تخلق شعوراً مزدوجاً تجاه مصر، حتى من جانب أولئك الذين يقدرونها ويرتبطون بها، فهي تصنع إحساساً بالحب لها والحساسية منها في آن واحد، وتبدو للبعض كأنها الأخ الكبير الذي يستأثر بكل شيء ويحجب عن أشقائه ما يجب أن ينالوه، وهذه نقطة جديرة بالتأمل، فمصر حتى بين جيرانها  تثير القلق أحياناً وتدعو إلى الشعور بالنقصان أحيانًا أخرى أمام بلد وهبته الجغرافيا ومنحه التاريخ وأغدقت عليه الطبيعة، فأصبح دوره محورياً ونشاطه مركزياً يؤدي أحيانًا إلى تهميش سواه، كما تبدو المشكلة أكبر في ظل معادلة الحجم السكانيّ الكبير مع الفقر في مواجهة دول أصغر ولكنها تتمتع بالثراء الذي يجعل نظرتها إلى مصر محكومة بهذه العقدة.
ولنا في الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً يحتاج إلى الدراسة في هذا الإطار، فهي القوة الأعظم في عالمنا المعاصر وصاحبة التقدم الاقتصادي الكاسح والتفوق العسكري الواضح، ولكنها فقيرة التاريخ تسعى إلى شرائه أحياناً، واصطناعه أحياناً أخرى. فقد سعت إلى دول أوروبية لها تاريخ، مثل بريطانيا، لكي تشتري منها «أكشاك الهواتف الحديدية الحمراء»، بل وساومت على كوبري «لندن» ذاته، فويل للدنيا ممن يملك حاضراً قوياً، ويدرك أن تاريخه محدود، وأن ماضيه مجهول. 
ثالثًا: إن للقيادة والريادة ثمناً، فالزعامة الدولية أو الإقليمية تحتاج إلى إمكانات كبيرة ونفقات باهظة من معاهدات وتحالفات ومعونات ومؤتمرات وحروب أيضاً، فمن شاء أن يتصدّر عليه أن يدفع، لذلك فإن أي حديث مع مسؤول صيني حول إمكان قيادة دولة الصين لزعامة العالم المعاصر يجعله ينتفض كمن لدغه «ثعبان»، ويرد بقول جاهز «إن هذا مفهوم إمبريالي لا نقبله، وكل ما نريده هو أن يكون لنا وجود فاعل في القارة الآسيوية ولدى الدول الصديقة بحكم إنتاجنا الصناعي ويدنا الممتدة نحو الآخرين». فالصين بالفعل، ليست مستعدة لكي تكون وريثاً للحقبة الأمريكية إذا انتهت، ونفس الأمر ينسحب على مصر في إقليمها، لذلك ثار لغط شديد حول دورها وهل يجب عليها الانزواء في الداخل بحكم ظروفها الداخلية، أم الانتشار في الخارج بحكم قدراتها العسكرية ومكانتها الإقليمية والدولية؟
إن هناك من يرون أن «المسألة المصرية» يمكن اختزالها في دور محدود ومحدد تلعبه القاهرة لأن تحركها خارج حدودها يبدو أحيانًا مستفزاً لغيرها ومقلقًا لجيرانها، إذ يجب أن تتعامل معهم بالندية المطلوبة والروح العصرية القائمة، إذا كنا بحق نفكر في مستقبل مستقر لهذه الدولة العظيمة التي ننتمي إليها.
رابعًا: إن جزءاً كبيراً من ثورات المصريين عبر التاريخ
قد جاءها من خلال قدرتها على اقتحام المشكلات ومواجهة التحديات قبل أن يفكر مغامر أو طاغية في أن يضغط عليها أو أن يقهر إرادتها. إذ إن مصر عصية على التغيير الفوري، ولكنها تأتي فقط من خلال المؤثرات الإنسانية والثقافية أو العوامل الدينية والوطنية أحياناً أخرى.
ولكن القاسم المشترك بين كل هذه الدوافع هي قضية
«العدالة الاجتماعية»، فالمصريون يثورون من أجل تلك القضية بالدرجة الأولى. والذين يتأملون شعارات ثورة 25 يناير 2011 سوف يكتشفون أن قضية «العدالة الاجتماعية» هي العامل المسيطر والأساس في كل ما يجري، وهي الدافع الرئيسي نحو مواجهة الفساد والوقوف ضد الاستبداد.
خامساً: إن «المسألة المصرية» ليست شعاراً عارضاً ولكنها تعبير معقّد يحمل في طيّاته عناصر تاريخية، وأخرى تراثية وجغرافية، ولا تقف عند حد معين، وهي ذات طابع دوليّ وإقليميّ، وذات طابع قوميّ ومحليّ، لذلك فإن تعبير «المسألة المصرية» لا يأتي من فراغ ولكنه تجسيد لمجموعة من الأعمدة التي تقف عليها شخصية الدولة المصرية عبر التاريخ.
ومثلما كانت «المسألة الشرقية» في يوم من الأيام هاجساً دولياً، فإن «المسألة المصرية» حالياً هي هاجس إقليميّ وقوميّ في الوقت نفسه.
هذه نقاط سقناها للتدليل على التركيبة الخاصة والسبيكة المتميزة التي تشكل شخصية مصر وسياستها الداخلية والخارجية، وطبيعة الارتباط بينهما عبر مراحل التاريخ المختلفة.
*ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"