في الوداع الشجي للشهداء

01:18 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف الحسن

هذه لحظات فارقة من تاريخ الوطن، لحظات تقول دماء الشهداء فيها «هذا وطن يستحق أن نفتديه بالأرواح، فحافظوا عليه ودافعوا عنه، لا خطب ولا صعب يثنينا عن هذا الهدف».

الحرب في اليمن، لها شرعية متعددة الجوانب، ليس أقلها أنها حرب الضرورة، دفاعاً عن حاضر المنطقة ومستقبلها، وعن هوية اليمن العربية.. خاصرة الجزيرة العربية، وفنائها الخلفي، خرجت منه الهجرات العربية الأولى قبل الإسلام إلى الجزيرة العربية والخليج الشرقي وبلاد الشام وغيرها، وتأسست فيه حضارة العرب الأولى ، وبخاصة حول حوض سد مأرب.
منذ نحو ثلاثة عقود ونصف العقد، ذهبت إمارات زايد إلى اليمن لتعيد بناء سد مأرب، كما كان في زمن تاريخي مضى، ولتبعث الروح والحياة في اليمن، وها هم جند الإمارات يلبون نداء اليمن من جديد.
في اليمن ما يستحق الشهادة، ولا أحد ظن أن الحرب لن تتعمد بدماء الشهداء.
باركت الإمارات كل حوار يمني وطني، قبل الأزمة وخلالها، وأدركت أن اليمن عرضة لانهيار كارثي، بفعل مغامرة آثمة ارتكبها الفاسد الأكبر علي عبدالله صالح والميليشيات الحوثية، ولها أبعاد ومخاطر استراتيجية علی هوية اليمن واستقلاله، وعلى موازين القوى في المنافذ البحرية وخرائط الجزيرة العربية والخليج.
لم يكن أمام الإمارات في أزمنة التغيير والتحولات خيارات مترفة لمواجهة تصدع هذه الخاصرة اليمنية، وتحولها من خاصرة فقر إلى خاصرة نار. صحيح أن الأكلاف هائلة لكن المخاطر أكثر، ونتائج هذه الحرب ستكون أبعد من ثنائية النصر أو الهزيمة.
قلت ذات ليلة، على فضائية «سكاي نيوز عربية»، وقبل أن يصل الحوثيون إلى صنعاء: «إن صنعاء أخطر وأهم من دمشق، بالنسبة إلى منظومة مجلس التعاون الخليجي»، وقلت في مقال في هذه الجريدة، (الثاني من إبريل 2015)، بعنوان «اليوم التالي .. بعد العاصفة»: إيران ارتكبت مجازفة خطرة في اليمن، حينما انفلتت شهيتها لتوسيع النفوذ من عقالها، وقلت أيضاً «للعاصفة أكلاف كبيرة وربما ممتدة في المكان والزمان، واليمن على درجة عالية من التعقيدات المناطقية القبلية والهويات الضيقة، فضلاً عن الجغرافيا والفقر والاختراق و«القاعدة» و«الدواعش» وجماعات الإخوان المسلمين، وأحلام الانفصال والتشطير والثأر، كما قلت «المهم والضروري.. التفكير في اليوم التالي».
«اليوم التالي»، هو مواكبة العمل العسكري بمشروع مارشال عربي ليمن جديد، يخرجه من ظلمات الفساد والتخلف والعوز والهويات الصغرى إلى آفاق إنسانية متقدمة، واحتضان كل اليمن لكل شريك في المستقبل وعبوره بتأشيرة حضارية.
ندرك أننا في الإمارات منذ نشأة هذا الاتحاد الفيدرالي نعيش في بيئة إقليمية شديدة التغيير، وقد صمدت الإمارات في أجواء وتداعيات حروب شرسة دارت رحاها في حوض الخليج، وتداركت ردود أفعال كثيرة، وحضرت في وجدان شعبها وقيادتها دوماً الحكمة والعقلانية، وفي الوقت نفسه ملكت الإمارات الجسارة منذ السنوات الأولى لقيامها، حينما شارك جندها في قوة الردع العربية في أثناء نشوب الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات، وخرج يومها هذا الجندي لأول مرة خارج حدود وطنه، لتحقيق السلام الأهلي وإنعاش لبنان وهو في لحظة اختناق.
وتذكرت هذه الأيام، وأنا أشاهد هذه الكوكبة من الشهداء البواسل، قصة «محاربات جلفار» في أوائل القرن التاسع عشر، وهن يدافعن عن رأس الخيمة في مواجهة غزوات برتغالية وبريطانية.
إن قوة الإرادة هي التي تحرك التاريخ وتشحنه بقوة مضافة، وتكشف معدن الشعب وقدرته على التماسك والصمود والثبات.
ذهب الشهيد إلى اليمن ليعيد الحياة فيها ويروي بدمه الزكي عروبة اليمن ويعززها لعقود مقبلة.
الوداع الشجي للشهداء يجعلنا نتحسس أولاً غيابهم ونتلمس جبين أطفالهم وهم مع نهار قادم، يدفعون فيه مهر وطن مستقر وآمن ومزدهر وعادل.
إن استشهادهم هو إسهام جديد في صناعة تاريخ مشحون بالدفاعات الباسلة عن كل ما أنجزه هذا الوطن النافع لأمته والمفيد للإنسانية.
هي أيام لا كسائر الأيام، نفتخر فيها بهذه الكوكبة من الشهداء البواسل، التي بثت دماؤهم روحاً جديدة في المجتمع، تفرض علينا أسلوباً جديداً ووعياً جديداً في العمل الوطني، وفي آليات التلاحم الشعبي مع القيادة، وفي تعزيز قيم الهوية الوطنية وروح الانتماء والفداء لدى الأجيال الناشئة.
هل وصلت رسالة الشهداء الأبرار إلى دول كبرى في الإقليم وفي العالم؟ هل قرأت هذه الدول مفهوم النسبة والتناسب وتطبيقه على نموذج عدد شهداء الإمارات نسبة إلى عدد أهل الإمارات؟
ستكتشف هذه الدول أن تطبيق هذه النسبة على دولة مثل فرنسا (عدد سكانها 65 مليوناً) فإنها تعادل نحو ثلاثة آلاف ومئتين وخمسين قتيلاً فرنسياً، ومثل أمريكا (عدد سكانها 320 مليوناً) فإنها تعادل نحو ستة عشر ألف قتيل أمريكي... وهكذا.
هذا هو العطاء الإماراتي العربي والإنساني، لمواجهة حالة الغلاة والتوحش على رقاب البشر، وإعادة الحياة إلى شرايين أرض اليمن العربية ، وهذا هو ثمن الانتصار للحق والقيم الإنسانية، وهذه هي «إمارات جديدة» في المعادلة العربية والإقليمية.
نعم... هذه لحظات فارقة من تاريخ المنطقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"