قائد في تاريخ الجزائر

03:17 صباحا
قراءة دقيقتين
مفتاح شعيب

لم يكن إلا الله وحده يعلم أن الجزائر ستتلقى، بعد ثلاثة أيام من تسلم رئيسها الجديد عبد المجيد تبون منصبه، صدمة بوفاة رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، بعدما عبر بالجزائر واحدة من أحرج مراحلها دقة في تاريخها الحديث إثر انتفاضة شعبية عارمة أفضت إلى استقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وخاض بها غمار تجربة انتقال سياسي مختلفة عن غيرها، انتهت بعودة الشرعية الدستورية كاملة.
اليوم يرقد قايد صالح في مربع الشهداء بمقبرة العالية إلى جانب رفاقه السابقين، ممن قادوا وصنعوا الثورة التحريرية الخالدة، التي ما زال تاريخها المهيب يفرض الاحترام والإجلال. رحل الرجل وحيداً، تاركاً البلاد بأسرها متشحة بالحداد وتتقبل التعازي في خيم أقيمت في مختلف الولايات. وبذلك يعطي الشعب الجزائري صورة أخرى عن تلاحمه الوطني بوقوفه أمام الحدث مسلماً بالقضاء وببقاء الجزائر حرة مستقلة تنحت نموذجها الحضاري الخاص بعيداً عن المحاكاة والتقليد.
لم يكن قايد صالح الزعيم الوحيد الذي فقدته الجزائر، ففي السنوات القليلة الماضية ودعت رؤساءها السابقين، أحمد بن بلة والشاذلي بن جديد وعلي كافي، وقبلهم بسنوات عديدة عاشت الرحيل المروّع لهواري بومدين ولم يتعد عمره العقد الرابع. وطوال هذه الفترات عاشت الجزائر محناً عدة وأزمات هائلة، لكنها ما فرطت في قيمها الوطنية المأثورة، ودفعت من أجل ذلك أثماناً باهظة وشلالات من الدماء مثلما حصل في عشرية التسعينات السوداء. ولولا لطف القدر، لتكرر السيناريو نفسه مؤخراً، بفعل تآمر من الداخل والخارج لضرب تلك القلعة العربية. ولا يمكن للتاريخ أن يغفل عن الدور الكبير الذي لعبه الراحل قايد صالح حين أصبح الرجل القوي في البلاد بعد استقالة بوتفليقة.
ومما يحسب له أنه أدار الأزمة بصبر وروية وتحمل النقد الجارح في شخصه وفي المؤسسة العسكرية دون أن يفقد توازنه أو يتخلى عن حكمته. ورغم أنه لم يكن الرجل الأول دستورياً، فقد كان زعيماً بأتم معنى الكلمة. حافظ على الوحدة الوطنية ونافح عن الشرعية الدستورية وتصرف كأب للجميع، ممن هم مع السلطة ومن يعارضها. ولم يكن سهلاً في بلد مثل الجزائر أن تمر أزمة سياسية حادة سقط فيها نظام وحوكم رموزه وسجنوا، دون أن يطلق الجيش رصاصة واحدة أو تراق قطرة دم أو يتزعزع السلم الأهلي. ومما يحسب للجزائر سلطة ومعارضة أنهم رفضوا أجمعين أي تدخل خارجي، وهو درس يستوجب التأمل والاعتبار لمن يريد أن يتعلم.
قدر الشعوب أن تتحمل الرزايا مهما عظمت. وبالنسبة إلى الجزائر، لم يكن الراحل قايد صالح إلا واحداً من رجالها البررة. لقد رحل إلى الأبد مكرماً بأثره الطيب، وبقي الشعب عزيزاً يستمد من تضحيات من مضوا ما يبني به حاضراً واعداً ومستقبلاً أرقى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"