قراءة في قصيدة "انتصار"

01:24 صباحا
قراءة 5 دقائق

عندما فاز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في سباق القدرة 2012 في لندن، وحصل على المركز الأول، وأحرز فريق الدولة ذهبيتين في آن، أحدث سموه بذلك الانتصار التاريخي صدى واسعاً، وأفرح بفوزه شعب دولة الإمارات العربية المتحدة بأكمله، بل الشعوب العربية بأكملها . أما فرحة فارس العرب نفسه بهذا الفوز، فكللها بقصيدة سماها انتصار وهذه ليست أول مرة يعبر سموه شعراً عن فرحته بفوز رياضي كبير كهذا، فهو فارس شاعر وشاعر فارس، وشعره في كل مرة يتضمن الكثير من رؤاه الفلسفية، ومن كلماته البليغة الحكيمة . إذ لا يكاد يكتب بيتاً، إلا وله هدف سام يرمي إليه بأسلوبه العميق، وقلما أقرأ له تعبيرات لا تحتاج مني إلى تفكير عميق، بمعنى أن التورية والجناس والمجاز على رأس أولوياته، كما أنه يستخدم الكناية والتشبيه وغيره، واستخدامه لها فطري، وما أجمل التعبير عندما يصدر سليقياً من غير تكلف . ومن هذه القصائد التي نجد فيها الصور الجميلة والرمزية، وتمتزج فيها فرحة الفوز بكلمات الفخر والاعتداد بالنفس هذه القصيدة المعنونة ب انتصار، وسموه من حقه أن يفرح بالفوز لأن فوزه فيه تحد كبير، ومن حقه أن يفخر، لأن الذي يتحدى ويحقق ما لم يحققه الآخرون، يسجل في سجل التاريخ حقيقة حقيقية، لا ادعاء وزيفاً، ويحقق واقعاً ملموساً وليس خيالاً ووهماً . ومن حقه أيضاً أن يعتد بنفسه، لأن الثقة بالنفس بعد الاعتماد على الله، دليل الجدارة والاقتدار، وأهم أسباب النجاح عند القادة والزعماء والمبدعين والعباقرة، الثقة بالنفس وعدم إظهار الانهزام والانكسار حتى لو كان الإنسان مهزوماً، فعدم الاستسلام للهزيمة جزء من الانتصار، لذلك يقول أبو ذؤيب الهذل:

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

أجل قصيدة انتصار تعرف من عنوانها، لأن كلمة انتصار لخصت لنا القصيدة، ووفرت علينا الوقت، إذ لا يعطي فرصة للشك في انتصار محقق من البداية، وهذه هي ميزة الكلام العربي الذي من خصائصه الإيجاز، وفي الأمثال: البلاغة في الإيجاز، أو إذا قلت فأوجز . ثم إن القصيدة نفسها عندما تقرأها، تجدها تنساب في تعبيراتها سليقياً، كما تنساب شلالات المياه عبر مصباتها، فلا تكلف في السرد، ولا تنافر في الكلمات، وهي كما قلت قوية المباني، غزيرة المعاني، تتضمن الكثير من الصور البلاغية الجميلة، والرمزية التي عرف بها شاعرنا الشيخ محمد بن راشد في كل المواقف .

انظر كيف يستهل سموه قصيدته بهذا البيت القوي المشبع بالثقة بالنفس فيقول:

أشرت بالنصر ع العادة وأنا منصور

أحب الأول ولا لي عين في التالي

أي أنني كنت واثقاً من الفوز بعد الاعتماد على الله طبعاً، لماذا؟ لأنني عودتكم على الفوز دائماً، وأنا منصور دائما بإذن الله، علما بأن هدفي دائماً وأبداً، أن أحرز المركز الأول، ولا أفكر في المركز الثاني أبداً، لأن الذي من البداية يضع نفسه في الصف الثاني أو الصف الثالث، لا يمكن أن يتقدم أبداً، إذاً شاعرنا كما قال المتنبي:

له همم لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجل من الدهر

وافتخر الشاعر الفارس بفوزه، لأن الرمزية التي يفتخر بها تحققت له في هذا الفوز، وهي أنه فارس عربي، وهو في هذا السباق، العربي الأول الفائز بالمركز الأول على المجموعة المشاركة، ثم الخيل التي فاز بها سموه كانت عربية، لذلك فإن سموه يحق له بعد ذلك أن يقول:

يا كاتب المجد سجل مسفرات سطور

عنا وعن عز لنجوم السما طالي

سبق أن افتخر شاعر العراق صفي الدين الحلي وقال:

سلي الرماح العوالي عن معالينا

واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا؟

لما سعينا فما رقت عزائمنا

عمّا نروم ولا خابت مساعينا

ثم يقول:

أسري مع الليل لكني أحب النور

ومدهال روس الجبال الشم مدهالي

وهذا البيت هو من روائعه أيضاً، إذ يعبر عن قمة الطموح والمثابرة، حيث إن الشاعر لكي يحقق ما عنده من تطلعات، مستعد أن يساير ويجاري ويثابر ويصبر على الشدائد والأهوال، حتى يدرك ويصل إلى ما يتمناه . فهو إذا ساير الليل في ظلامه، يفعل ذلك لا لأنه يحب الظلام، بل لأنه سيؤدي به إلى النور، وإذا صبر على المر، فعل ذلك لأنه ينتظر الحلو، وهكذا يمر من خلال العسر إلى اليسر، أو من خلال الشدة إلى الفرج، لأنه يؤمن بقول الشاعر:

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ولكي يثبت لك أنه لا يرضى بأقل من المركز الأول قال: ومدهال روس الرجال الشم مدهالي، أي مكان الرؤوس من الرجال مكاني، فهو إذاً كما قال المتنبي:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

ويقول بعد ذلك:

أدمنت كسب المكاسب كاسب منعور

من لابة يبذلون النفس والمال

تأمل في كلمة منعور جيداً، لتجد أنها وحدها كم تحمل من معاني الإصرار، على أن يكون هو الفائز وليس غيره، فكلمة منعور باللهجة المحلية . تعني قوة الشخصية، وقوة العزيمة والهمة، والغيره على الوطن والمكتسبات، فهو يريد أن يكون هو الذي يحقق تلك المكتسبات، وفي سبيلها يرخص النفس والنفيس . وليس هو فقط الذي يتمتع بهذه الامتيازات والخصائص، بل خيله كذلك، فخيله بلغت من الإدراك لدرجة أنها تفهم ما يريد الشيخ محمد بن راشد، وهو يفهم كذلك ما تريده خيله، لذلك فإنه خبير بالداء والدواء، وكل واحد منهما ذو حاسة سادسة يفهم بها ما يريد الآخر، انظر إلى قوله:

وخيلي هي الخيل وأنا لعوقها دكتور

أفهم عليها وتفهم لي وتقرا لي

ولقد روى لي أحدهم أن الشيخ محمد بن راشد كان يقود حصانه في سباق من السباقات، فهمّ الحصان أن يلف إلى جهة اليمين، لكن الشيخ محمد وجهه إلى جهة اليسار . تكرر ذلك عدة مرات، وفي كل مرة يصر الحصان على جهة اليسار، وعندئذ تركه يلف إلى اليسار كما يريد، فوصل الحصان إلى النهاية فعلاً، وكان ذلك الطريق الذي سلكه الحصان أسلم، وكان الفوز هو النتيجة . يقول الراوي: لما وصل الحصان إلى النهاية بالسلامة والأمان، شد أذنيه إلى الخلف إلى جهة الشيخ محمد، فقال الشيخ محمد: أتدرون ماذا يقول لي الحصان؟ إنه يقول: ما رأيك الآن، أليس اليسار هو الأسلم؟

نعم . . وهذا يدل على مدى الشعور الراقي والتفاهم المتبادل بين الحصان والفارس، والخيل معروفة بذكائها، واحترامها لمن يحترمها ويبادلها الشعور . وبالمناسبة معرفة الشيخ محمد بالخيول منها فطرية، ومنها مكتسبة، فهو ابن البادية، سمع ودرس وقرأ عن الخيول، لكن الذي زاده معرفة، هو أنه يتابع الخيل بنفسه ميدانياً، وهو العاشق الذي لا يحب أن يفارق صهوة جواده، وصدق المتنبي إذ قال:

أعز مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

يا ترى لو عاد المتنبي إلى الحياة، أكان يفارق الشيخ محمد، أو هل كان الشيخ محمد يفارقه؟ كلا . نعم . . وإذا كانت الخيل تحتل هذه المكانة عند العرب قديماً، فها هي لا تزال تحتفظ بالمكانة نفسها، عند من يعرف قيمتها، ويدرك أهميتها في أن يتولى شؤونها بنفسه كالشيخ محمد بن راشد .

يقول سموه في كتاب رؤيتي:

عندما بدأت تجربتي في أوروبا (يقصد سباقات الخيول) كان الجميع يقولون: عليّ أن أحيط نفسي بمستشارين وخبراء من كل جانب، إذا أردت شراء الخيل يكونون معي، وإذا أردت بيعها أو المشاركة في السباق فالأمر نفسه . باختصار جمعت حولي كل عباقرة الخيل دهراً، لكن جيادي لم تسبق إلا بعدما شكرت الجميع، وبدأت أدير شؤون خيلي بنفسي، وأعتني بطعامها وصحتها وتدريبها . إذاً، سر نجاح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو المتابعة الميدانية من قبله هو شخصياً لا لخيوله فقط، بل لجميع رجالاته ومشاريعه وإنجازاته ودوائر دبي خاصة، والآن للوزارات الحكومية في الدولة عامة، لذلك أقول: لمثل هذا فليعمل العاملون، ومن هذه القصيدة فليخرج الناس ليقولوا:

ودرب الصاعدين كما علمتم

به الأشواك تكثر لا الورود

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلف وشاعر وخطيب. صاحب كلمات النشيد الوطني الإماراتي، ومن الأعضاء المؤسسين لجائزة دبي للقرآن الكريم. شارك في تأليف كتب التربية الإسلامية لصفوف المرحلتين الابتدائية والإعدادية. يمتلك أكثر من 75 مؤلفا، فضلا عن كتابة 9 مسرحيات وأوبريتات وطنية واجتماعية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"