كرة اللهب في ليبيا

03:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
عرفت الأزمة الليبية تعقيدات خطيرة على خلفية التطورات الأخيرة التي أعقبت مقتل المواطنين المصريين الأبرياء بدم بارد من طرف التنظيم الإرهابي المعروف ب"داعش"، وخاصة بعد أن أخذت السلطات المصرية على عاتقها مهمة الثأر والقصاص من منفذي الجريمة البشعة، بموازاة مع دعوتها للأمم المتحدة من أجل إصدار قرار يدعو إلى رفع حظر تصدير الأسلحة إلى الجيش الليبي . وكانت مصر تأمل في بداية الأمر أن يتخذ مجلس الأمن قراراً تحت البند السابع يسمح بتنفيذ عملية عسكرية مركزة ضد معاقل الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، غير أن الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا رفضت مناقشة الاقتراح على مستوى المجلس .
ويمكن القول إن الجريمة التي استهدفت الرعايا المصريين في ليبيا، أسهمت بشكل لافت في توضيح مواقف القوى الدولية الكبرى من الأزمة الليبية، فقد التزمت الإدارات الغربية في مجملها حذراً دبلوماسياً مريباً، مكتفية بالتنديد بالجريمة مع تأكيدها على ضرورة إيجاد "حل سياسي" للأزمة الليبية، متناسية أنها تجاهلت مثل هذا الحل عندما طلبت من الحلف الأطلسي التدخل في ليبيا من أجل إنهاء حكم العقيد القذافي، من دون أن تأخذ الوقت الكافي من أجل التفكير في تبعات انهيار الدولة في ليبيا، ليس على الشعب الليبي فقط ولكن على شعوب المنطقة برمتها؛ حيث أضحت ليبيا مرشحة أكثر من أي وقت مضى لأن تكون برميل البارود الذي يمكنه أن يعصف بأمن واستقرار المنطقة برمتها . ومن الواضح في كل الأحوال أن تحفّظ الدول الغربية على الاقتراح المصري، الذي دعا من خلاله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تدخل عسكري أممي في ليبيا، غير متجانس، فهناك أطراف غربية مثل فرنسا وإيطاليا ترى أن القضاء على المليشيات المسلحة لن يتحقق من دون تدخل عسكري يمكنه أن يحسم الموقف لصالح قوات الجيش الوطني الليبي، بينما تتبنى بريطانيا موقفاً يتسم بالكثير من النفاق السياسي من خلال إصرار رئيس حكومتها كاميرون على ضرورة إيجاد ما يسميه حلاً سياسياً، في الوقت الذي تعلم فيه بريطانيا جيداً أن إمكانية إنضاج مثل هذا الحل غير متاحة في المرحلة الحالية، نظراً لحالة الاستقطاب الحاد بين الأطراف المتناحرة، وخاصة أن الجماعات المحسوبة على الإسلام السياسي، وعلى رأسها تنظيم الإخوان تتبنى الخطاب الإقصائي نفسه الذي سبق تداوله من طرف تنظيم "الإخوان" في مصر، لأن ثقافة المشاركة السياسية لا يمكن أن تنبع من خطابات تتبناها تنظيمات تدافع عن أيديولوجيا شمولية . وتجدر الإشارة في السياق نفسه إلى أن الموقف البريطاني الرافض لرفع الحظر عن صادرات السلاح للجيش الوطني الليبي، مع غياب مؤسسة عسكرية موحدة ومتجانسة يمكن دعمها، يتسم بالتهافت وانعدام الجدية، لأن الجيش الليبي يجب أن يحصل على المعدات الضرورية وعلى التكوين العسكري الملائم من أجل أن يتمكن من رص صفوفه ومواجهة الخطر الذي تمثله التنظيمات المسلحة التي تتبنى عقيدة عسكرية إرهابية وفاشية .
أما مواقف الجوار الإقليمي الأخرى فتخضع لحسابات مغايرة مرتبطة بالوضع الداخلي لكل دولة، فتونس التي تربطها علاقة استراتيجية قوية مع جارتها الجزائر لا تريد، من جهة، أن تتبنى موقفاً يقف على الطرف النقيض مع الموقف الجزائري، ولا تود من جهة أخرى أن تعصف بالتوازنات الداخلية الهشة للحكومة الحالية التي دخلت في شراكة براغماتية غير طبيعية مع "حركة النهضة" الإخوانية، على الرغم من التصريحات القوية المعادية لتيار الإسلام السياسي التي أطلقها الرئيس التونسي في حملته الانتخابية الأخيرة . بينما ينطلق الموقف الجزائري من اعتبارات مشابهة، ولكن مختلفة في اللحظة نفسها، من حيث الدوافع الاستراتيجية، فقد توصّلت الجزائر خلال المرحلة السابقة، التي تزامنت مع حكم المستشار مصطفى عبد الجليل وحكم أول برلمان منتخب في عهد حكومة علي زيدان، إلى قناعة مؤداها أنه لا وجود حتى الآن لنواة صلبة لجيش وطني ليبي يمكن البناء عليها من أجل تطوير قدرات هذا الجيش وأنه وباستثناء قوات حفتر، ليس هناك قيادات عسكرية ليبية قادرة على فرض عقيدة عسكرية موحدة وجامعة على كل مكونات الجيش، الأمر الذي من شأنه أن يُفشل كل محاولة هادفة إلى إعادة تأهيل الجيش الليبي نتيجة لتضارب الولاءات القبلية والمناطقية، فضلاً عن غياب مشروع وطني جامع وموحد في المرحلة الراهنة . كما أن الجزائر التي تمكنت خلال سنوات سابقة، من تدجين الكثير من القوى المحسوبة على التيار الإسلامي وفي طليعتهم "الإخوان"، لا تريد أن تؤثر بشكل سلبي على المشهد السياسي الداخلي المحتقن من خلال وضع كل الإسلاميين في سلة واحدة، رغم قناعتها العميقة بأن مفهوم الاعتدال لدى تنظيمات الإسلام السياسي على اختلاف توجهاتها لا يمثل سوى واجهة إشهارية . ومع ذلك فإن الموقف الجزائري المدافع عمّا يسمى بالحل السياسي يتسم بالكثير من التناقض، لأن الدولة التي لا تستطيع أن تبني جيشاً نظامياً متجانساً لا يمكنها بكل بداهة أن تؤسس لتوافق سياسي قابل للتطبيق على أرض الواقع، بسبب غياب الضامن القوي الذي يمكنه أن يفرض على كل الأطراف احترام بنود هذا التوافق؛ الأمر الذي يفرض على الجميع تبني مقاربة تعتمد على ضرورة إيجاد صيغة تسمح بتدخل خارجي يمكنه أن يؤثر في ميزان القوى لصالح الطرف الذي بإمكانه أن يعيد للدولة الليبية هيبتها وكرامتها .
وعليه، فإنه ومن دون رغبة منا في الدفاع عن الموقف المصري المتصل بهذه الأزمة، فإننا نزعم في هذه العجالة أن موقف القاهرة يبدو لنا أكثر واقعية، لأنه يقترح خيارات قابلة للتطبيق من الناحية العملية، فلن يكون هناك حل سياسي للأزمة الليبية ما لم يتمكن الجيش الليبي بدعم خارجي مباشر من بسط سيادته على كامل التراب الليبي، وما لم يتوصل إلى تجريد المليشيات من سلاحها حتى لا تكون هناك دولة داخل الدولة . وعلاوة على ذلك فإن تأخير الحسم العسكري الذي تدافع عنه مصر، سيؤدي إلى تدحرج كرة اللهب الليبية الحبلى بالتيارات الجهادية والتكفيرية، لتحرق بنيرانها كل دول المنطقة بدون استثناء وفي مقدمتها الجزائر التي تمتلك حدوداً مترامية مع الجار الليبي، لأنه وبعد مرور سنوات من الترقب والانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع في هذا البلد، فإنه من الحكمة اللجوء إلى اعتماد خيار جذري كبديل للحلول الترقيعية التي تطيل من عمر الأزمة، مصداقا للمثل العربي الدارج وآخر الدواء "الكي" .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"