كلام في التاريخ والسياسة

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. يوسف مكي
قراءة التجربة التاريخية العربية المعاصرة، تشي بأن ثمة خللاً في مسار التجربة السياسية، منذ بدأت الأمة مشروعها للتحرر من نير الاحتلال الغربي، بعد الهزيمة الأولى للمشروع النهضوي العربي، التي أخذت مكانها كأحد إفرازات الحرب الكونية الأولى.
قراءة التجربة العربية المعاصرة، في سياقها التاريخي، والسياسي، أعادت حضوراً قوياً لمقولة الكاتب الراحل، أحمد بهاء الدين، في وصفه للإنسان بأنه حيوان بتاريخ. والمعنى كما يوضحه الكاتب الراحل، أن الإنسان، من دون سائر الكائنات الحية، هو وحده الذي يملك تاريخاً. إنه يتعلم من أخطائه وتجاربه. وهو بخلاف الحيوان، الذي تتصف حياته بآلية وتكرار لا يحيد عنهما.
لقد تعلم الإنسان منذ القدم اصطياد الفئران، بطريقة وضع قطعة من الجبن في مصيدة. ورغم أن الطريقة مضت عليها آلاف السنين، لكنها لا تزال صالحة. والسبب في ذلك أن الحيوانات، بخلاف الإنسان، كائنات من غير تاريخ.
والتجارب في المحصلة، هي مجموعة من العبر، تساعد الإنسان على تجنب الوقوع في مزالق الأخطاء. ولأنها كذلك، ربط قدماء الإغريق التاريخ بمدرسة الأخلاق. فوسيلتنا إلى التعلم، في كثير من الأحيان، هي مضاهاة الحاضر بالماضي.
فلو سادت النظرة الساكنة للكون، وانعدمت الحركة، لما كانت هناك حاجة لأجدادنا ليقوموا بالتدوين، وكتابة أيام العرب. الكون قانونه الحركة الدؤوبة، السائرة بوتائر مختلفة إلى الأمام.
هذه المقدمة، تفصح في جانب منها عن طبيعة الأزمة السياسية العربية، وعن معضلة الازدواجية التي حملها مشروع النهضة العربي. تداخل بين التقليد والمعاصرة. وتوق نحو التقدم باستخدام مفاهيم الماضي.
لقد انقسم الفكر العربي المعاصر، الفكر الذي ارتبط بحركة اليقظة العربية، إلى عدد من الخطوط. خط تقليدي أراح واستراح، واتخذ موقفاً عدائياً وصريحاً من الحداثة، ورأى أن ليس بالإمكان أفضل مما كان. وأن طريق العرب للنهوض، هو العودة إلى الموروث القديم الذي صنع أمجادهم. وانقسم هذا الخط بين من يدعو بصريح العبارة إلى عودة الخلافة الإسلامية، وبين من رأى استحالة ذلك، وطالب بإقامة دول إسلامية، على قياس دولة الإسلام، التي سادت في ظل أنظمة الخلافة، في عهد الخلافة الراشدة.
خط آخر، شبه تقليدي، طالب بتلاقح بين الأصالة والمعاصرة. فقال بحتمية التماهي مع روح العصر، ولكن باستلهام الموروث الحضاري للأمة، بما في ذلك الموروث الأخلاقي والديني.
خط ثالث طالب بالبتر التام مع الماضي، والتماهي مع العصر في الفكر والنموذج، ولم يكن لهذا الخط نصيب قوي من الحضور الاجتماعي والسياسي في الواقع العربي حتى يومنا هذا.
وتشير القراءة الموضوعية، إلى أن الخطوط الثلاثة لم تلتزم بالمنهج التاريخي. فالخط الأول، انطلق من نظرة عدمية ساكنة، بمعنى أنها غير تاريخية. ويمثل الإسلام السياسي هذا الخط. وقد تكرر حضوره في الواقع العربي، وقد كان هذا الحضور، باستمرار ردة فعل حادة لوجود أزمة سياسية في الواقع العربي.
تأسس الإسلام السياسي، لأول مرة كردة فعل غاضبة، على نتائج الحرب العالمية الأولى. كان موقفه مرتبكاً وقلقاً من سقوط السلطنة العثمانية، التي وصفها بعض قادة الحركة الإسلامية، ببيضة الإسلام. وكانت نتائج الحرب الكونية الأولى بالنسبة للعرب كارثية ومروعة، وضعت اتفاقية سايكس بيكو، قيد التنفيذ، وهيأت المناخ لتنفيذ وعد بلفور، واغتصاب الصهاينة لفلسطين، وهزيمة المشروع النهضوي العربي.
أما المحطة الثانية للإسلام السياسي، فكانت هزيمة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967م، وارتبطت بما عرف في حينه، بالصحوة الإسلامية. وكان من أبرز ملامحها تفجير الحافلات والقطارات في أرض الكنانة، واغتيال لبعض المسؤولين والكتاب الحداثيين في الدولة المصرية، وبلغت أوجها باغتيال الرئيس السادات.
أما المرحلة الأخيرة، فهي ما نشهده الآن من تغول لظاهرة الإرهاب، وبرز ذلك بشكل دراماتيكي ومكثف بعد انقضاء العصر الذهبي القصير لدولة الإخوان في مصر وتونس، والعجز عن القفز إلى السلطة في سوريا واليمن، والأحداث المروعة في ليبيا، التي صادرت بجدارة هذا الكيان.
واقع الحال، أن الخط الثاني، خط التلاقح بين الأصالة والمعاصرة، هو الذي قدر له أن يقود مسيرة الكفاح الوطني العربي، نحو الاستقلال. وقد تناوبت قوى اجتماعية عديدة قيادة هذا الخط.
لقد كان للطبقة المتوسطة، وفكرها التقليدي المطعم بنفحة عصرية، شرف قيادة المرحلة الأولى من الكفاح الوطني، في ثورات عدة شهدتها ثورة 1919 في مصر، وثورة العشرين في العراق، ومحاولات إعاقة حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم. وقد وقعت هذه الطبقة أسيرة افتتانها بالمحتل، ومقاومتها له. وبين تمسكها بالتقليد وتوقها للمعاصرة. وانتهت مرحلتها إلى فشل ذريع.
في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، احتدمت معارك الاستقلال، واكتمل تحرير معظم البلدان العربية، بنهاية حقبة الستينيات من القرن الماضي، لكن الخلل الذي واجهته حركة اليقظة العربية، في مراحلها الأولى، ظل قائماً. المطالبة بالعصرنة والتحديث، وتوسل التقليد، وآلياته، كوسائل للولوج في مرحلة التحديث.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"