كلمات إلى النار

04:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما يهبط الإلهام على شخص مبدع في لحظة من اللحظات، يشعر بذلك النداء الملح، فيستجيب ملبياً، ساعياً إلى الكمال غايته المنشودة، فالإبداع يشبه الحبيب الذي يتطلب من المحب أن يعطيه جل وقته وكل إخلاصه كي يشبع نهمه.

ويظل الإبداع عطشاناً لا يرتوي إلا عندما يسخّر المبدع كل طاقاته واضعاً إياها تحت تصرفه، حينها فقط يشعر المبدع بالتآلف مع ذاته.

والأدباء والروائيون يشعرون بهذا الاستمتاع بالإبداع، فهم ينسجون عباراتهم الساحرة من عالمهم الخاص ويتحكمون بها.

ومع أن الإبداع ينزل على المبدع بكل تسلطه، فيجعله يبذل لأجله الجهد والطاقة، ويضحي بوقته وصحبة الناس، يظل المبدع مخلصاً لذلك السادي المتحكم به، ووفياً له حتى النهاية.

ولقد كان الأديب الأمريكي الروسي الأصل فلاديمير نابوكوف، أحد أولئك المبدعين المستسلمين لتسلط العملية الإبداعية، وكان ذا خيال واسع جداً، وقد أتحفنا بروايات رائعة مثل أدا، النار الخمسة، وروايته الشهيرة لوليتا التي تحدى بها المجتمع بأسلوب ساخر.

ومنذ ثلاثين عاماً، عكف نابوكوف على كتابة روايته الأخيرة نقيض لورا وهو على فراش الموت، وبينما كان الموت يدنو منه بكل برودته، كان نابوكوف يسعى لإحياء شخصيات روايته بكل ما أوتي من إبداع، وقد بلغ عدد صفحات روايته قرابة مائة وثماني وثلاثين.

توفي نابوكوف عام ،1977 وكانت وصيته الأخيرة لزوجته فيرا أن تقوم باتلاف روايته. عملت فيرا بوصية زوجها، لكنها لم تتلف الرواية بل أودعت تلك النسخة الأصلية في دهاليز أحد المصارف السويسرية، حيث ظلت قابعة هناك لم يمسها ولم يقرأها أحد حتى يومنا هذا، أي أكثر من ثلاثين عاماً.

ومؤخراً، قرر ديمتري نجل نابوكوف الوحيد، أن يقوم بجمع أجزاء رواية والده الأخيرة ويقدمها للعالم. وقد اعترف ديمتري بأنه تردد كثيراً قبل أن يطبع الرواية لأن نشرها يعني عدم احترام رغبة والده الأخيرة، لكنه رأى أن بقاءها في الظلام يمثل خسارة كبيرة في عالم الأدب.

لقد كانت حيرة ديمتري في محلها، فماذا يمكن أن يفعل واحدنا إذا طلب منه أحد ألمع الكتّاب في القرن العشرين إتلاف أحد أعماله؟ قد نعارض في البداية، ثم نجد أنفسنا منحازين إلى ذلك الإبداع فنناضل من أجل تخليده.

ترى، ماذا كان سيحدث لملحمة الشاعر فرجيل الإنياذة لو احترم ورثته رغبته الأخيرة في إتلافها؟ وماذا كنا سنعرف عن كافكا لو أن صديقه ماكس برود نفذ رغبته في إحراق روايتي المحاكمة والقلعة؟

من ناحيتي، وككاتبة، أعترف بأنني أميل إلى احترام وصية الكاتب الأخيرة، فهذا في رأيي عين الصواب، لأن الكاتب بعد موته يدفن معه إمكان مناقشة عمله والدفاع عنه وهذا أحد حقوقه المشروعة، وإذا تلفظ المبدع ذات يوم بعبارة أتلفوا هذا العمل أو ذاك فذلك يدل على يقينه بأن في سلسلة إبداعه حلقة ناقصة وأنه لم يبلغ الكمال بعد. فعدم الرضا التام عن عمل ما يجعله كأنه لم يوجد بعد، أو أنه حتى لن يكون أبداً. ومن المرجح أن يكون نابوكوف قد أدرك ذلك، أو ربما تلفظ بكلماته وهو غارق في بحر الضياع والهذيان ولم يدرك عواقبها. وعلى كل حال تبقى رغبته رهن التساؤل، وهي تفتح باب النقاش على مصراعيه.

ترى أيهما أكبر، مسؤولية الكاتب تجاه عالم الأدب أم تجاه نتاجه الإبداعي؟ وإذا كان الكاتب كريماً لدرجة إشراك الناس في أعماله، فهل نبخل عليه بتحقيق رغباته الأخيرة؟ وما الذي يجعل الناس يطمعون بالمزيد كلما أعطيناهم من ذواتنا؟

الكاتب بشر مثل غيره من الناس. هو إنسان وله الحق في اختيار ما يراه صائباً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"