حظر المشاهير.. مطالب إنسانية في عالم الخوارزميات

00:31 صباحا
قراءة 4 دقائق

عائشة عبدالله تريم

الاضطرابات السياسية، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، واستهتار الحكومات بالمطالب العامة، دفعت الناس باستمرار إلى ابتكار أشكال جديدة من الاحتجاج. وعندما يرى الأفراد أن صرخاتهم المطالبة بالتغيير تلقى التجاهل أو تقابل بالعنف، كما يظهر التاريخ مراراً وتكراراً، يقدمون على الانتقام من خلال تعطيل النظام الاقتصادي.

بعد أن تعلموا الدروس القاسية للرأسمالية، وأن الدولار يأتي أولاً والبقية مجرد أضرار جانبية، بدأ الناس في مقاطعة المؤسسات والشركات التي تعرقل مطالبهم، بشكل مباشر أو غير مباشر. رغم أن الحكومات أعلنت على مدار عقود من الزمن أن هذه المقاطعات غير فعالة، زاعمة أنها لا تسبب الضرر المقصود وتلحق الأضرار بشكل أساسي بالشعوب من خلال خفض الوظائف وإغلاق الشركات. ومع ذلك، فإن ردود أفعال أسواق الأسهم العالمية والتعديلات اللوجستية الكبيرة التي تجريها الشركات رداً على هذه المقاطعات تشير إلى عكس ذلك.

ومع تصاعد وتيرة الصراع في غزة، ووصول الخسائر في صفوف المدنيين إلى مستويات غير مسبوقة في الحروب الحديثة، تستمر المقاطعة على قدم وساق. وقد تأثرت بشكل خاص الشركات المعروفة بدعمها لإسرائيل، مثل «ستاربكس» و«ماكدونالدز»، حيث شهدت انخفاضاً كبيراً في المبيعات، وتراجعت قيمة أسهمها، ولحقت أضرار دائمة بسمعة علامتها التجارية بشكل قد لا يمكن إصلاحه.

ورداً على ذلك، حاولت هذه الشركات تغيير علامتها التجارية من خلال إنشاء هويات جديدة تنأى بها عن شركاتها الأم، بهدف التخفيف من الخسائر التي تكبدتها علاماتها التجارية التي كانت تحظى بالاحترام في السابق. وفي الوقت نفسه، تواجه الجامعات في جميع أنحاء العالم واحدة من أصعب المعضلات، حيث تقاوم احتجاجات طلابية تناشد بسحب الاستثمارات من الشركات المتواطئة في دعم ما تقوم به إسرائيل من إبادة في غزة. حيث في الولايات المتحدة، تجمع الجامعات المليارات على شكل هبات من كيانات لها علاقات عميقة الجذور مع إسرائيل، ما يجعل سحب الاستثمارات شبه مستحيل. وحتى الآن، وافقت كلية إيفرجرين الحكومية فقط على سحب استثماراتها من إسرائيل، وهذا يسلط الضوء على التشابك العميق للنظام التعليمي الأمريكي مع الشؤون السياسية.

لقد تجاوز الصراع في غزة حاجز ال 200 يوم، حيث اتسم بالعديد من الهجمات التي تم تصنيفها على أنها جرائم حرب، فضلاً عن التجويع المتعمد للمدنيين من خلال عرقلة المساعدات الدولية. ونتيجة لذلك، اشتدت الاحتجاجات، وأصبحت ردود الفعل أكثر قوة، وتحولت المقاطعة إلى «حظر».

«حظر المشاهير» هو المصطلح الذي اعتمده مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد المشاهير لعدم تحركهم تجاه الأزمة الإنسانية في غزة، وذلك بهدف تهديد أرباحهم عن طريق خسارة متابعين على منصات التواصل الاجتماعي مثل «إكس» و«إنستغرام» و«تيك توك». إن حظر شخصية شهيرة على هذه المواقع يؤثر في حسابها بشكل أكبر من مجرد إلغاء المتابعة، حيث يعيق تقدم خوارزمية الحساب ويقلل من وصولها إلى متابعين أكثر.

نشأت حركة «الحظر» رداً على حفل «ميت غالا» (حفل سنوي ضخم لجمع التبرعات لصالح معهد آنا وينتور للأزياء في متحف المتروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك)، حيث سار المشاهير المزينون بالمجوهرات على السجادة الحمراء بفساتين باهظة الثمن، متباهين بما اعتبره الآخرون عالماً موازياً يناقض الواقع اليومي الذي يعيشه معظم الناس. وفي الوقت الذي تواجه فيه الجامعات الأمريكية الاضطرابات واستمرارية الإبادة الجماعية في غزة، كان من المفترض أن ينصب الاهتمام على حفل «ميت غالا»، ومع ذلك، جاء هذا التركيز بنتائج عكسية، أدى إلى ولادة حركة حظر المشاهير (#blockout). وشهد المشاهير في جميع أنحاء العالم انخفاضاً كبيراً في أعداد متابعيهم – على غرار الانخفاض في أسهم الشركات التي تمت مقاطعتها – حيث فقدوا مئات الآلاف من المتابعين في الساعة، ما وجه ضربة كبيرة لصورتهم العامة ووضعهم المالي.

في السابق، كانت وسيلة التعبير الوحيدة للفنان هي الفن، بينما كان الباقي مجالاً للمؤسسات الإخبارية والمعلقين السياسيين. كان الفنانون يتعرضون للانتقادات عادة بناءً على موهبتهم فقط، ولكن عندما تحولوا إلى وسائل إعلام ومحطات إذاعية ووكالات إعلانية، لم يتمتعوا بالامتيازات المالية المتمثلة في تجاوز الوسطاء فحسب، بل تولوا أيضاً المسؤوليات التي تتحملها تلك الكيانات تقليدياً. في السابق، كان من النادر أن نتوقع من جميع المشاهير اتخاذ مواقف سياسية، لكنهم اليوم يتعرضون للانتقاد لعدم وجود صوت سياسي لهم. كما كانت هذه الانتقادات موجهة في المقام الأول إلى الشخصيات السياسية والمثقفين. لكن اليوم، اصبح متوقعاً من أي شخص لديه عدد كبير من المتابعين.

وفي الواقع، فإن امتلاك منصة كبيرة يجلب معه مسؤولية التحدث نيابة عن أولئك الذين لا صوت لهم. ومع ذلك، يجب على المرء أن يتساءل عما إذا كان المشاهير و«المؤثرين» يتمتعون حقاً بالفطنة السياسية والرغبة في المخاطرة بسبل عيشهم من أجل مثل هذه القضايا؟ لا يمكن للمرء أن يفعل ذلك إلا إذا تمسك بمعتقداته الأخلاقية بقوة، ومع ذلك لا يزال الكثيرون يفشلون في اتخاذ موقف. هذه الحجة لا تعفي المشاهير من مسؤولياتهم تجاه الإنسانية؛ بل إنه تساءل عما إذا كان ينبغي لنا أن نتوقع تعليقات سياسية ومؤازرة إنسانيه من «مؤثري» الساعة، فتيات الإعلان وفناني الماكياج.

ومن المفارقات الصارخة أن مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي الذين تتبعهم الجماهير، أطلقوا على أنفسهم اسم المؤثرين عندما يكون تأثيرهم الأساسي هو تصعيد النزعة الاستهلاكية إلى مستويات غير عادية، وتحويل متابعيهم إلى مدمنين.

في الواقع، إنهم مؤثرون، لكن طبيعة وصدق التأثير الذي يمارسونه أمر مشكوك فيه. ورغم أن الغاية قد تبرر الوسيلة في هذا السيناريو، فإن توقع اهتمام حقيقي من شخص يفشل في فهم خطورة قضايا مثل الإبادة الجماعية يبدو أمراً لا طائل منه. قد ينشر «المؤثرون» على مواقع التواصل الاجتماعي، أو لا ينشرون، منشوراً يدعم فلسطين أو يدعو إلى وقف إطلاق النار، لكنهم في النهاية لا يستطيعون تقديم ما لا يملكونه أنفسهم، ففاقد الشيء لا يعطيه، وفي هذا العالم المفقودة هي الإنسانية في غابة الخوارزميات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"