كوبا في زمن الأزمة العالمية

05:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تحتل كوبا منذ سنوات عدة المرتبة الأولى عالمياً من حيث القدرات الطبية البشرية ويوجد بها العدد الأكبر من الأطباء مقارنة بنسبة السكان متقدمة في ذلك على دول كبرى، مثل: بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن كان الدور الجيوسياسي لكوبا قد انحصر بشكل ملحوظ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، ونظراً لتعرضها لأطول حصار في العالم من طرف واشنطن، فإن السلطات الكوبية استطاعت على الرغم من ذلك أن توظف بذكاء قدراتها وكفاءاتها البشرية المشهود لها عالمياً، لتحتل مرة أخرى مكاناً مرموقاً في المشهد الدولي الجديد الناجم عن الأزمة الصحية غير المسبوقة التي أدت إلى انهيار المنظومة الصحية في العديد من الدول المتطورة.
لقد عملت كوبا منذ انتصار الثورة الاشتراكية التي قادها فيديل كاسترو على تطوير علاقاتها مع دول العالم من خلال إرسال خبرائها العسكريين وفرقها الطبية المتخصصة إلى العديد من مناطق الصراع المسلح وبؤر انتشار الأوبئة، لاسيما في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومثلت المنطقة العربية الوجهة الأولى لتصدير الخبرة الطبية الكوبية؛ حيث كانت الجزائر أول دولة في العالم تستقبل بعثة طبية كوبية سنة 1963 أي بعد سنة واحدة من استقلالها، ومازال التعاون الكوبي مع الجزائر مستمراً حتى الآن؛ حيث يوجد العديد من الأطباء الكوبيين المتخصصين في جراحة العيون في المناطق الجنوبية من البلاد.
وتشير الإحصاءات إلى أن كوبا أرسلت حتى نهاية سنة 2019 نحو 50000 طبيب موزعين على أكثر من 38 دولة ويقدمون خدماتهم الصحية في كل أرجاء المعمورة ويسهمون أيضاً في حصول بلدهم على مبالغ مالية معتبرة تساعد الحكومة الكوبية على مواجهة الحصار الأمريكي. وتعود جذور هذه النهضة الطبية الكوبية إلى سنة 1959 عندما قرر أكثر من 6000 طبيب كوبي مغادرة بلادهم بعد تسلم كاسترو مقاليد الحكم في البلاد، الأمر الذي دفع الحكومة الاشتراكية إلى اعتماد برنامج واسع لتكوين الكوادر في مجالي الصحة والتعليم. وقد استعانت منظمة الصحة العالمية بالخبرات الطبية الكوبية من أجل مواجهة العديد من الكوارث والأوبئة في العالم، كما حدث على سبيل المثال مع وباء إيبولا في إفريقيا سنة 2014 وزلزال هايتي سنة 2010.
وحاولت بعض الدول خلال السنوات الأخيرة محاصرة النشاط الطبي الكوبي عبر العالم من أجل إحكام الحصار على الجزيرة؛ حيث دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مواجهة النشاط الطبي لكوبا، كما قام الرئيس البرازيلي بولسونارو بطرد الأطباء الكوبيين من بلاده واصفاً إياهم بعملاء الاستخبارات. وجاءت الجائحة التي سببها فيروس كوفيد- 19، لتقلب الموازين مجدداً لصالح الاستراتيجية الكوبية القائمة على تصدير خبراتها الطبية إلى خارج البلاد، فبعد أن كان الأطباء الكوبيون يتوجهون بشكل حصري نحو الدول الفقيرة، بدأت دول متقدمة في المجال الصحي تستعين بالكفاءات الكوبية لمواجهة هذا الوباء.
فقد أرسلت كوبا أطباءها إلى إيطاليا أكثر الدول الأوروبية تأثراً بانتشار «كورونا»، كما استعانت إسبانيا بأطباء كوبيين لمواجهة سرعة تفشي المرض، ولجأت الحكومة الفرنسية إلى الكوادر الطبية الكوبية لمعالجة مرضاها في جزرها البعيدة ما وراء البحار في المارتينيك وغوادلوب..، وقام مؤخراً 20 نائباً فرنسياً بتوجيه رسالة إلى رئيس الحكومة إدوارد فيليب يدعونه فيها إلى الاستعانة بالخبرة الطبية الكوبية من أجل التصدي للوباء في المدن الفرنسية الكبرى، ويفصح هذا العجز الطبي الذي تعيشه دول متطورة فشلت في المحافظة على خدمة صحية عمومية قادرة على مواجهة الأزمات نتيجة للسياسات الليبرالية المتطرفة التي اعتمدت في الكثير من الدول.
وسبق للزعيم الكوبي الراحل كاسترو أن عبّر عن البعد الجيواستراتيجي لأطقم بلاده الطبية من أجل مواجهة السياسات العدائية الأمريكية تجاه بلاده في خطابه الذي ألقاه في العاصمة الأرجنتينية سنة 2003 عندما قال: «إن بلدنا لا يلقي قنابل على شعوب أخرى، ولا يملك أسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية».
وبالتالي فإنه وبعيداً عن كل نزعة شمولية وعن كل سياسة قائمة على خياري الإفراط والتفريط، فإن الأزمة الصحية العالمية ومعها التجربة الصحية الكوبية، تُبرزان بشكل لافت أهمية وحاجة مختلف دول العالم إلى تطوير وتأهيل منظومات صحية عمومية قادرة على تقديم خدمات طبية لمجموع السكان في أزمنة تفشي الأوبئة وانتشار الكوارث الطبيعية التي لا تميز بين غني وفقير ولا بين المهاجرين والسكان الأصليين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"