كيف يرانا الآخر؟

05:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي
ليس المهم كيف يرى الإنسان نفسه، فالتاريخ البشري يؤكد أن كل شخص يتصور أنه حالة خاصة ويتوهم دائماً أنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل، وانطلاقاً من ذلك يتصور دائماً أنه متميز عن سواه، أحق من غيره بكل ما يراه متاحاً أمامه، وهي مسألة تقترب من مفهوم (الشوفينية) للأوطان ولكن على مستوى الفرد الإنسان، إننا وفقاً للثقافة العربية والميراث المصري نستغرق في تقديس الذات ونتغنى دائماً بالأمجاد ونلوك تاريخنا دون توقف متوهمين أن الماضي شفيع دائم أمام الانتكاسات والكبوات والانكسارات والهزائم، ولنأخذ الدولة المصرية مثالًا فهي حالة واضحة للتباين في وجهات النظر والاختلاف عند التقويم ولأن مصر تقف على أعمدة متعددة تحدد محصلتها شخصية ذلك البلد بتراثه وحاضره واحتمالات المستقبل أمامه فإننا نمضي وراء ملامح شخصيتنا الفرعونية ثم العربية الإسلامية مروراً بالعصر القبطي قبل ذلك وصولاً إلى مصر الحديثة بعد ذلك كي نوجز الأمر برمته في الملاحظات الآتية:
أولاً: إن التاريخ الفرعوني بملحقاته اليونانية والرومانية والذي يلحق به العصر القبطي قبل الفتح الإسلامي يمثل رصيداً لا ينتهي لشخصية مصر الدولية، وما زلت أتذكر وأنا مستشار بالسفارة المصرية في الهند أن اتصل بي سفير إحدى الدول اللاتينية المعتمد في نيودلهي وقال لي إن ابنه مغرم إلى حد الهوس بالتاريخ المصري وإنه يريد أن يلتقي بي لبعض الاستفسارات وجاءني غلام لا يتعدى سن الطفولة وبدأ يناقشني في تتابع الأسر الفرعونية ويحاصرني بتساؤلات تحتاج إلى تخصص دقيق، وتأكدت أن حضارة المصريين مهمة لدى شعوب الأرض ولكن المصريين آخر من يعرفون عنها رغم أن لديهم أعلاماً دوليين في هذا المجال من أمثال زاهي حواس وعلي رضوان وغيرهما من أساطين علم المصريات، ويكفي أن اليونيسكو ترى أن مدينة الأقصر وحدها تضم ما يقرب من ربع التراث الإنساني كله.
ثانياً: إن مصر الإسلامية هي عمود فقري للعالم الإسلامي كله، فالديانات السماوية مرت عليها فاحتضنتها بكل مظاهر الاحترام وشواهد التوقير، لقد جاء ذكرها في العهدين القديم والجديد وأفرد لها الذكر الحكيم عدة آيات من القرآن الكريم رغم أن مصر ليست منزل الوحي ولا مهبط الرسالة إلا أنها تظل بأزهرها الشريف وأهل البيت الذين لاذوا بأرضها في القرن الأول الهجري وأضرحتهم لا تزال شاخصة لكل من يزور القاهرة أو بعض المواقع الإسلامية الأخرى على الخريطة المصرية، إنها مصر التي تصدر للعالم قراء القرآن الكريم وعلماء الدعوة، وعندما أراد (أوباما) الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية أن يخاطب الأمة الإسلامية كان منبره من القاهرة تقديراً لدورها وتعزيزاً لمكانتها.
ثالثاً: إن مصر الإفريقية هي رائدة التحرير والتنوير عندما تواكب دورها مع مرحلة تصفية الاستعمار وخرج من حي (الزمالك) ذات يوم عدد من قادة حركات التحرير عائدين إلى بلادهم ليتبوأوا مناصب الحكم ومقاعد السلطة، وما زال الأفارقة يذكرون لمصر ذلك الفضل، فبرغم أن جنوب إفريقيا دولة أغنى وأكثر تقدماً إلا أنهم يعيبون عليها أن دورها السياسي في تاريخ القارة لا يطاول بأي حال الدور المصري الرائد، وعندما تثور مشكلات إفريقية فإن الجميع يتطلعون إلى مصر في لحظات ازدهارها وفترات تراجع دورها أيضاً لأنهم يعلمون أنها الدولة التي تتصرف معهم بكل نزاهة وشرف، وإذا تطلعنا للقارة الأم نجد أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والهند وتركيا وقبلهم وفوقهم بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل» قد دخلوها بينما سعى بعض الأشقاء العرب إلى إفريقيا من منافذ الخلاف بين بعض دول شرقها ومصر وكان الأولى هو أن يكون الدم العربي المشترك حامياً من هذه المواقف وواقياً لمدخل عربي مشترك تجاه القارة التي يسكنها ثلثا العرب.
رابعاً: إن طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» ومعه أحمد لطفي السيد مترجم «روائع الفكر الإغريقي» بالإضافة إلى سلامة موسى وتوفيق الحكيم كانوا يبشرون جميعًا بشخصية متميزة لأكبر دولة في جنوب المتوسط الذي هو بحيرة الحضارات، أطلت عليه الحضارة المصرية القديمة بإلهامها للحضارتين الإغريقية والرومانية وظل الإشعاع المصري يعكس أضواءه على سطح مياه المتوسط ليؤكد دائماً ذلك الارتباط الجغرافي والثقافي الذي لم يتوقف، وقد استعادت مصر مؤخرًا دورها المتوسطي بعلاقات وثيقة مع اليونان وقبرص فضلًا عن فرنسا وإيطاليا وغيرها من دول جنوب أوروبا.
خامساً: قال الإنجليز في القرن التاسع عشر (إذا عطست مصر فذلك يعني أن الشرق الأدنى قد أصابته نزلة برد) بما يعني أن مصر هي ترمومتر المنطقة والرأي العام فيها هو التعبير الحقيقي عن المزاج السائد لذلك ظلت هي قائدة الحرب ورائدة السلام في الصراع العربي- «الإسرائيلي» وأزمة الشرق الأوسط.
هذه هي الأعمدة الرئيسية للهوية المصرية نرى من خلالها كيف ينظر إلينا أصحاب كل منها، فنحن أمام العالم حضارة عريقة وفريدة، وفي العالمين العربي والإسلامي أيقونة تنفض عن نفسها غبار السنين ليعود إليها بريقها الذي لا يخبو، وهي بين دول المتوسط الرقم الذي يصعب تجاوزه أو الإقلال من دوره، أما مكانتها في الشرق الأوسط فهي دولة إقليمية كبرى تختلف عن إيران وتركيا بارتباطها ببعدها العربي ودوله الاثنتين والعشرين.
.. إنها مصر ذات الهوية الفريدة والشخصية المتميزة وصاحبة المواقف المشرفة والتضحيات الدائمة، إنها مستودع لما يقرب من مئة مليون عربي يعيشون على البوابة الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية في امتداد عضوي مع غرب آسيا وجنوب المتوسط.. هكذا يرانا الآخر إذا لم يكن في قلبه مرض أو لديه غصة أو داء دفين من علة تاريخية هو أدرى بها!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"