لبنان إلى الانتخابات النيابية أو المجهول

05:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلال عهد الوصاية السورية لم تكن ثمة حاجة إلى نقاشات مستفيضة بين اللبنانيين للاتفاق على قانون انتخابي، فالانتخابات النيابية كانت تُجرى في مواعيدها، والقانون كان يأتي جاهزاً من دمشق فيحقق غلبة واضحة لحلفائها . وحتى بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان بقيت دمشق حاضرة في الشأن اللبناني وذات نفوذ فيه من خلال حلفائها ومخابراتها . وهكذا جرت انتخابات العام 2005 بناءً على قانون انتخابي سبق أن فرضه اللواء غازي كنعان رئيس جهاز الاستخبارات السورية العاملة في لبنان، في العام ،2000 وفي العام 2009 جرت الانتخابات غداة اتفاق الدوحة في مايو/ أيار 2008 الذي شاركت دمشق، إلى جانب، قوى دولية وإقليمية أخرى، في صياغته ورعايته . وحكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عن هذا الاتفاق انفرط عقدها بعد استقالة حلفاء سوريا منها . وقتها كان النفوذ السوري حاضراً في لبنان ولو في غياب الوصاية .

اليوم يستعد لبنان لإجراء انتخابات نيابية، للمرة الأولى منذ عقود طويلة، من دون وصاية ولا نفوذ سوريين، فالنظام السوري منهمك في صراع مرير يجعله أحوج إلى حلفائه اللبنانيين منهم إليه . وعلى اللبنانيين أن يثبتوا أنهم جديرون بالاستقلال، في ظروف دولية ملائمة ولو كان المناخ شديد الخطورة والتشنج . والدلائل على مثل هذه الملاءمة كثيرة، منها النصائح التي لا ينفك يسديها السفراء الأجانب إلى اللبنانيين بإجراء الانتخابات في مواعيدها الدستورية تجنباً للفراغ الدستوري الذي قد يفتح على المجهول . أكثر من ذلك فقد سارع الرئيس الفرنسي هولاند إلى بيروت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي فقط لينصح الحكومة اللبنانية بعدم الاستقالة غداة اغتيال العميد وسام الحسن رئيس فرع المعلومات .

وتنكبّ لجنة نيابية مصغرة على صياغة قانون للانتخابات بعد فشل القانون الذي أقرته الحكومة اللبنانية في الذهاب إلى البرلمان لإقراره بسبب افتقاده إلى الأغلبية البرلمانية الضرورية . وهنا مفارقة ينبغي الإشارة إليها كما فعل رئيس الجمهورية اللبنانية الذي انتقد الوزراء (المنتمين إلى كتلة الإصلاح والتغيير التي يقودها الجنرال عون) الذين أقروا قانون النسبية في الحكومة، على أساس تقسيم لبنان إلى 31 دائرة انتخابية، وراحوا يروجون للمشروع الأرثوذكسي القاضي بانتخاب كل مذهب لنوابه . هذا القانون الذي اعتبره كثيرون قنبلة موقوتة ويخالف الميثاق والدستور واتفاق الطائف والعيش المشترك، فيعيد لبنان إلى غياهب التقوقع والمذهبية في أبشع مظاهرها .

وقد تبين من خلال الجدل المحتدم أن الزعماء اللبنانيين ينظرون إلى المشاريع المقترحة فقط من منظور المصالح الشخصية والحزبية الضيقة من دون اعتبار للمصلحة الوطنية العليا . وعندما يناسبهم مشروع انتخابي معين فإنهم قادرون على حشد كل الحجج القانونية والدستورية لمصلحته، وعندما يتوجسون من خسارة مقعد واحد في الانتخابات من جرائه، فإن الحجج الدستورية والميثاقية لا تنقص لانتقاده وتبرير رفضه .

المشكلة أن كل المشاريع التي يمكن اقتراحها من السهل احتساب ما سوف يجنيه وما سيخسره هذا الطرف أو ذاك بسببها فيبني موقفه منها على هذا الأساس . ويبدو أنه من الصعوبة بمكان استيلاد مشروع يحمل غموضاً لجهة إمكان احتساب الأصوات بسببه قبل الانتخابات . كل المشاريع التي يمكن تصورها طرحت على بساط البحث، وكلها ووجهت برفض من هذا الطرف أو ذاك . والمشكلة أنه في ظل بدعة الديمقراطية التوافقية التي تحكم لبنان، لا يستطيع رئيس مجلس النواب إرسال مشروع معين إلى مجلس النواب لإقراره ولو أنه يحظى بالأغلبية النيابية الضرورية (النصف زائداً واحداً) إذا لم يكن ميثاقياً، بمعنى أنه يحظى بتوافق الأطراف الطائفية الأساسية عليه . إنها أحجية حقيقية .

من هنا صرخة رئيس الجمهورية الذي يؤيد القانون الذي أقرته الحكومة والقائم على النظام النسبي، بأنه من المعيب على اللبنانيين ألا يتوصلوا إلى إقرار قانون انتخابي في غياب الوصاية، للمرة الأولى منذ عقود طويلة .

من المؤكد أن الطبقة السياسية اللبنانية واعية لمخاطر عدم التوصل إلى قانون انتخابي، ولم يعد لها متسع من الوقت لذلك . فالانتخابات ينبغي أن تُجرى في أواخر الربيع المقبل، وينبغي ترك الوقت الكافي لوزارة الداخلية للاستعداد للإجراءات العملية من إعلان الترشيحات وتنظيم العملية الانتخابية . لذلك فعلى الأرجح أن يتم التوصل، في اللحظات الأخيرة، إلى قانون يخلط بين المقترحات العديدة التي أشبعت نقاشاً فيجري إعمال المقص الانتخابي لتقسيم الدوائر وفقاً لمصالح الذين يتقاسمون قالب الحلوى الانتخابي، وأن يتم التعويض على الخاسرين المفترضين بتحالفات انتخابية، وليس سياسية بالطبع، مع الخصوم في هذه الدائرة أو تلك . هذا ما حصل تقريباً في العام 2005 فالتحالف الانتخابي الرباعي بين الخصوم نجح في تمرير الانتخابات لكنه لم ينتج مفاعيل في المواقف السياسية .

ثم إن الديمقراطية التوافقية سوف تخفف من آثار تغير ميزان القوى بفعل الانتخابات، فحزب الله يعلن منذ الآن أن هذا الميزان لن يتغير مهما كانت النتيجة، لأن معادلة الشعب والجيش والمقاومة ستبقى على حالها وسيتضمنها البيان الوزاري للحكومة المقبلة كما فعلت الحكومات المنصرمة، بما فيها تلك التي ترأسها تيار المستقبل . ولأن الوضع السوري مرشح للاستمرار وقد لا ينجلي في الأفق المنظور، فلبنان لا يستطيع الانتظار طويلاً، وبالتالي فإن الحل الأمثل للنأي به عن أتون الحرب السورية هو في تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات، تمهيداً لاستحقاق مقبل، في العام ،2014 وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية .

إن البديل عن هذا المسار هو الدخول في المجهول والفراغ مع كل الآثار المترتبة على استقرار لبنان واقتصاده واستقلاله ووحدته . ولا ريب في أن المسؤولين اللبنانيين واعون لهذه المخاطر فهل يكونون في مستوى المسؤولية، هذه المرة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"