لبنان وشبح الفتنة

04:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

يطوف شبح الفتنة في لبنان هذه الأيام بعد المواجهات التي شهدتها مدينة صيدا، التي أدت إلى استشهاد عدد من الجنود اللبنانيين، وانفراط عقد جماعة يقودها شيخ سلفي . التوترات في الصف الإسلامي ذات خلفية تتعلق أساساً بالوضع السوري ومواقف الفرقاء المحليين منه، إضافة إلى خلفيات أخرى منها عجز الرئيس المكلّف تمام سلام، عن تشكيل حكومة تجمع الفرقاء . في ضوء هذه المخاوف الجديّة، يتبدى كم أن السياسة التي تمسكت بها حكومة نجيب ميقاتي . . حكومة تصريف الأعمال الحالية، التي كان عنوانها وما زال رسمياً: النأي بالنفس، هي سياسة صائبة على جميع المستويات، بما في ذلك في المحافل العربية والدولية، وإن بدت ظاهرياً أو شكلياً: لا سياسة . غير أن الفرقاء الداخليين، وقد ارتضوا علانية هذا الموقف الرسمي، فإنهم لم ينأوا بأنفسهم عن مجريات الأزمة، والنتيجة هي ما نرى ونسمع هذه الأيام في بلاد الأرز . من المؤسف أن هذه الأطراف بلغت نقطة اللاعودة في انغماسها بالشأن السوري، وليس معلوماً أي جهد يمكن أن يبذل، بل أية معجزة يمكن أن تتحقق لوقف هذا التداخل، ووقف انعكاساته على المجتمع اللبناني في سائر المناطق ولدى سائر الطوائف، بعد أن عاد تلازم المسارين مرة أخرى بين البلدين بصورة توتر أمني عالي المستوى .

ويكاد يكون الأمر معكوساً الآن في استشراف الحلول، إذ إن شرط النأي الفعلي للبنانيين عن الأزمة السورية مرهون بوصول هذه الأزمة إلى نهاية سياسية، فيقع حينئذ فك ارتباط تلقائي أو موضوعي!

بطبيعة الحال فإن لبنان ليس وحده المنغمس في هذه الأزمة، بعدما باتت الأزمة ذات أبعاد إقليمية ودولية ليست بحاجة للبرهنة عليها . وبوسع أي لبناني أياً كان موقفه من الأزمة، المنافحة بأن أطرافاً عديدة في الإقليم، وفي الشرق والغرب منغمسة فعلياً أو سياسياً بهذه الأزمة المتشعبة، فكيف يمكن عزل لبنان وحده عن المجريات، خاصة بعد نزوح نصف مليون سوري إلى لبنان، في وقت لا يخفي فيه الزعماء السياسيون لهذا البلد حساسيتهم تجاه أي تغيير ديمغرافي فيه، ولو على مستوى وضع اللاجئين الطارئين فيه!

المعادلات الاجتماعية/الطائفية في لبنان، تجعل هذا البلد قابلاً أكثر من غيره للتأثر سلباً بمضاعفات الأزمة السورية، إذ سرعان ما تترجم المواقف والانحيازات السياسية إلى استقطابات طائفية خلافاً لبلدان أخرى، وهو ما يفسر حالة الانسداد السياسي الراهن، والمخاوف من الأسوأ بنشوب نزاع اهلي واسع النطاق، يبدو إلى جانبه التمديد الساري للمجلس النيابي، وبقاء الوضع الحكومي معلقاً أهون الشرور، مقارنة بالغيوم الداكنة التي تكتنف فضاء السلم الأهلي، وتكاد تحجب أفق الحياة السياسية .

فحتى تركيا المنغمسة في هذه الأزمة، فإن الانعكاسات السلبية الداخلية للأزمة السورية تبدو محدودة في هذا البلد، وقد رأينا على سبيل المثال كيف أن احتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول والاحتجاجات في مدن تركية أخرى كانت بعيدة في توجهاتها عن التأثر المباشر بهذه الأزمة، رغم وجود طائفة علوية إلى جانب الأغلبية السنية في بلاد الأناضول . وفي الأردن المجاور فإن الحراكات الشعبية لا تجمع أو لا تدمج بين المتطلبات الداخلية للمعارضة، وبين انعكاسات الأزمة السورية على البلد، وذلك مع مواقف متباعدة من هذه الأزمة بين أطراف الحراكات التي هدأت وتيرة تحركاتها في الآونة الأخيرة . .

إضافة إلى لبنان، فإن العراق هو البلد الثاني الذي يتأثر سلباً باستدامة الأزمة السورية، ومع استناد المواقف السياسية في بلاد الرافدين، في العديد من جوانبها، إلى تحشيد طائفي ومناطقي سابق على نشوب الأزمة السورية، لكن هذا الاستقطاب وجد تغذية ناشئة له مع نشوب الأزمة في البلد الجار، وفي وقت لا تعدم فيه الانشطارات الداخلية والأطراف المُحرّكة للتدهور الأمني المستدام قوة دفع ذاتية، وسلبية بمعزل عن التأثير المباشر للأزمة السورية! . وبينما ظل السوريون يتطيّرون في بداية نشوء الأزمة من أن تنزلق بلادهم إلى ما تشهده بلاد الرافدين منذ نحو تسع سنوات، فإن استفحال الأزمة السورية جعل بعض العراقيين وحتى السوريين يذهبون إلى أن الوضع في العراق على سيئاته بات أقل سوءاً من الكارثة السورية، بدليل أن المقيمين العراقيين في سوريا عادوا بأغلبيتهم إلى موطنهم، بينما لجأ سوريون إلى الجوار العراقي، وبعضهم لجأ إلى كردستان العراق .

على هذا النحو تتفاعل الأزمة السورية في البلدين المجاورين: لبنان والعراق، ومنهما إلى الداخل السوري . وللأسف الشديد فإن العدوى السلبية هي التي سرعان ما تنتقل وتتفشى ذهاباً وإياباً، بدلاً من الاتعاظ بالتجربة المُرّة في العراق مثلاً، والنأي عن دينامياتها السيئة، أو بدلاً من الاقتداء بالديمقراطية اللبنانية على علاتها وما توفره من حريات، وهو ما يثير الحاجة إلى رؤية نهاية سياسية للأزمة السورية، تحفظ وحدة هذا البلد وتلبي تطلعات شعبه وتمنع سريان الانعكاسات السلبية خارج الحدود . وبالتدقيق في مواقف سائر الفرقاء الإقليميين والدوليين، فإن الطرف الوحيد المؤهل لصنع اختراق سياسي جدي يكسر متوالية العنف هو الطرف الداخلي من حكم ومعارضة، غير أن أحداً لا يريد أو يعجز عن التقدم على هذا الطريق، بما يجعل الخسارة عامة وشاملة وتتجاوز الحدود التي باتت لينة ورخوة مع الخارج .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"