لنجرب الاندماج بدلاً من التفتيت

02:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

لو أراد الإنسان أن يرسم صورة قريبة من المثالية لما يجب أن يتطور نحوه المشهد السياسي المدني العربي، على مستوى كل قطر وعلى مستوى الوطن العربي، لكانت الصورة كالآتي:

* أولاً: ألا يكون في كل قطر أكثر من ثلاثة أحزاب . حزب قومي ديمقراطي يطرح شعارات الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وبرنامجه يقوم على مكونات المشروع النهضوي السِت: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية الشاملة المستقلة المستدامة والتجديد الحضاري . هذا الحزب سيضم كل الذين يؤمنون بمبادئ أو انضموا إلى الأحزاب الناصرية والبعث العربي والقوميين العرب .

حزب ثان يضم الليبراليين واليساريين . هذا الحزب سيكون بينه وبين الحزب القومي شعارات كثيرة مشتركة، ولكنه قد يختلف بشأن أهمية أو ضرورة طرح شعار الوحدة العربية في المرحلة الحالية على الأقل .

أما الحزب الثالث فسيضم جميع أطياف الإسلام السياسي المؤمنة بالعمل السياسي ضمن اللعبة الديمقراطية . ولأن هذا الحزب ينطلق أساساً من مبادئ إسلامية فستكون له وجهات نظر مختلفة عن وجهات نظر الحزبين الآخرين حتى بالنسبة إلى الشعارات المشتركة . فوجهات نظره بالنسبة إلى شعارات مثل الديمقراطية والحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية ستكون لها خصوصيتها الإسلامية .

* ثانياً: من المؤكد أنه ستكون هناك فوارق فكرية أو حتى استراتيجية بين المكونات التي ستنصهر لتأسيس الأحزاب الجديدة . وفي هذه الحالة ستشبه تواجد مختلف الأجنحة في الحزب الواحد، كما يراها الإنسان مثلاً في الأحزاب الأمريكية والبريطانية . فتلك الأجنحة لا تتطابق وجهات نظرها حول كل الأمور، وقد تمتد الاختلافات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في الحزب الواحد . لكن برنامج تلك الأحزاب، سواء كان دورياً أو سنوياً يأخذ تلك الفروق في الاعتبار ويطرح صيغة واحدة لحزب واحد أمام جماهيره وناخبيه .

من هنا فإن التعلل بأن الاختلافات الفرعية مثلاً بين السلفيين والإخوان المسلمين بالنسبة إلى الإسلام السياسي، أو بين البعثيين والناصريين بالنسبة إلى القوميين، ستجعل الاندماج في حزب واحد أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، هذا التعلل أثبتت التجربة العملية في بلدان أخرى بطلان طرحه، وأنه بالحوار والأخذ والعطاء، في ما بين أجنحة الحزب الواحد يمكن الاتفاق على حلول وسط تأخذ أولاً في الاعتبار الأساسيات المشتركة ولاتضيع في الخلافات الفرعية، أو إذا لزم الأمر تؤجلها .

* ثالثاً: هناك أدب سياسي غزير يثبت أن وجود حزبين متنافسين ومتبادلين للسلطة دورياً من خلال انتخابات نزيهة هو أفضل ضمانة لاستقرار النظام الديمقراطي السياسي . ذلك أن كثرة الأحزاب وتعدد البرامج السياسية وما يتبعها من صراعات ومشاجرات تجعل المواطن غير قادر على الاختيار المتوازن الهادئ بين المشاريع، بل وقد تدفعه نحو الابتعاد عن الحياة السياسية إذا اتسمت بالصخب والملاسنات .

كما أن كثرة الأحزاب تأتي بحكومات ائتلافية بين مجموعة من الأحزاب، الأمر الذي يجعل المواطن غير قادر على المحاسبة عندما تحين الانتخابات الدورية ويطرح موضوع استبدال سلطة قديمة بسلطة جديدة .

لكن في اعتقادي أن التنافس في الأقطار العربية يجب أن يكون بين ثلاثة أحزاب بسبب الخصوصة التاريخية والدينية التي لا تستطيع القفز فوق الإسلام السياسي كطرح ثالث في الحياة السياسية العربية .

* رابعاً: من أجل العمل السياسي على المستوى القومي، وبسبب كثرة أعداء هذه الأمة، ولأن العمل على المستوى القطري له محدوديته ونقاط ضعفه، فالمقترح هو وجود ثلاثة مؤتمرات سنوية، يضم كل مؤتمر الأحزاب المتماثلة في كل الأقطار العربية . سيكون هناك إذاً، مؤتمر للأحزاب القومية الديمقراطية ومؤتمر للأحزاب الليبرالية واليسارية ومؤتمر للأحزاب الإسلامية .

ليس المقصود من هذه المؤتمرات التدخل في الشؤون الداخلية لنظام الحكم في كل قطر عربي، إنما المقصود هو التنسيق والإغناء الفكري ووضع استراتيجيات مشتركة على مستوى الوطن العربي ودعم الأحزاب لبعضها بعضاً عند مواجهة التدخلات الخارجية أو البطش الداخلي، إلى حين استقرار النظام الديمقراطي في بلاد العرب، أو قيام نوع من الوحدة بين أجزاء الوطن الواحد الكبير .

لقد قلنا منذ البداية إن هذه الصورة التي نتخيلها ستكون أقرب إلى المثالية، إن لم تكن المثالية المستحيلة . ولكن، من قال إنها ستتم في خطوة واحدة وبشكلها النهائي المتصور؟

تلك الصورة تحتاج لأن تكون ميسرة، تبتدئ بالجزئي الممكن على المستوى القطري وعلى المستوى القومي، وتتدرج عبر الزمن والجهد والظروف نحو النضوج والوصول إلى الصورة الفاعلة المتطورة، أبدأ من دون توقف نحو الأفضل والأكثر ارتباطاً بحاجات الواقع وبأحلام الأمة . هناك ألف باب لدخول هذا المشهد .

أما الاكتفاء بمشاهدة المشهد السياسي المدني العربي، وهو في حالته المزرية الضعيفة الحالية غير القادرة على إخراج الأمة من ورطتها التاريخية التي تعيشها وغير القادرة على صد العدوان والمؤامرات الخارجية التي وصلت إلى حدود العدمية وإمكانية خروج الأمة من تاريخ الإنسانية المنتج الفاعل، هذا الوقوف السلبي المتفرج سيقود إلى كوارث ومآس لن تستثني أحداً، وعندها لن ينفع الندم، وستقهقه الصهيونية حتى تستلقي على ظهرها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"