مأساة المثقفين والمفكرين العرب

05:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

مثلما أن المثقف والمفكر يفعل في الواقع، فيرصده ويحلله وينقده ويضع له أيديولوجيات لتقوده وتحكمه، وذلك كله من أجل تغييره نحو الأحسن والأفضل والأكثر سمواً، كذلك يفعل الواقع في المثقفين والمفكرين، إذ يؤثر فيهم، ويحاول عجنهم، بل ويسعى إلى تشويههم وغوايتهم.

من هنا فإن اللطم والبكاء على ما جرى للمثقف والمفكر العربي في زماننا هذا، من استزلام للأنظمة الحاكمة حيناً، ومن انقلاب على بعض ثوابت الأمة التي كنا نحسبها مقدسة وغير قابلة للمراجعة، بل من انحياز لأعداء الأمة مثلما فعل المتصهينون باسم الحداثة والتمدن، إنما هو رفض أو عدم فهم لطبائع الأمور. ونحن هنا ننسى أن المثقفين والمفكرين (الإنتلجنسيا) لا ينتمون إلى طبقة واحدة ولا يكوِّنون جماعة واحدة متناسقة لها مصالح أساسية واحدة. إنهم خليط قابل للاختراق والإفساد والاستعمال الانتهازي.

نذكِّر أنفسنا بهذه البدهية بعد أن كثرت صيحات الاستغراب والحسرة والغضب تجاه مجموعة متزايدة من الإنتلجنسيا العربية التي أصبحت في صف الاستبداد الداخلي وفي أعداد المسوغين لرجوع الاستعمار الخارجي، وعلى الأخص الأمريكي المعولم. وأصبح البعض منهم بهلوانات تقفز فوق الجماهير، فتعتبرها جماعات غوغائية جاهلة، وتقفز فوق ثوابت الأمة القومية فتعتبرها يوتوبيا حالمة خارج العصر ولا تنسجم مع العولمة، وتقفز فوق ثقافة الأمة، وخصوصاً جزءها الإسلامي، فتعتبرها غيبية بيانية متخلفة، وتقفز فوق آلام وجراحات الفقراء والمهمشين فتعتبر معاناتهم عقاباً ضرورياً لكسلهم وعاداتهم الحياتية السلفية.

وللحق فإن ما يجري بالصورة المفجعة التي نشاهدها ليس كله من صنع بعض المثقفين والمفكرين، فالإنتلجنسيا بطبعها تنحاز إلى الأفكار والمثل والسمو الشخصي وتنأى بنفسها عن كل ما يشوِّه إنسانية الإنسان. ذلك أن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على سلطات الدولة العربية. فالدولة العربية هي دولة ريعية في الأساس، وفي هذه الدولة تهيمن السلطة على المال والنفوذ السياسي والاجتماعي، بحيث إنها ابتلعت مجتمعاتها وأحالتها إلى كيانات عاجزة مستجدية وخاضعة، سواء بأفرادها أو بمؤسساتها. وفي هذه الحالة، وتحت مثل هكذا ظروف، تستطيع الدولة العربية أن تتحكم في الأرزاق وفي كل الثروات المادية والرمزية، فتوزعها حسب معايير الولاءات والاستزلام والخدمات المبتذلة.

من هنا السقوط المذهل لقسم كبير من أفراد الإنتلجنسيا العربية في لعبة إغواء سلطة الدولة العربية لتبعدهم عن مسؤولياتهم التي عرفوا عبر التاريخ بحملها، منذ ذلك اليوم الذي اختار فيه فيلسوف أثينا، سقراط، أن يكون مهمازاً وسوطاً لوخز المجتمع كلما غفا ونام من أجل أن يصحو لنفسه ويدافع عنها ومن أجل أن يذكّره بمسؤولياته تجاه أفراده وضد جلاديه ومصاصي دمائه ورحيق حياته.

وهنا يجب أن نكون حذرين ومنصفين. فمن مسؤوليات المثقف والمفكر مسؤولياته تجاه نفسه، في الأكل والملبس والمعيشة المحترمة المعقولة وبعض من الرفاهية. وبالتالي فالطلب منه أن تكون أدوات تعبيره مدخلاً للجوع والعطش والعري وحياة التقشف هو مطلب تعجيزي. وعليه فإن جزءاً من حل إشكالية الإنتجلنسيا العربية العمل على إنهاء ريعية الدولة العربية وجعلها دولة مؤسسات ديمقراطية شفافة عادلة، ودولة قانون منصف، ودولة سلطة ومجتمع حي قادر على لجم تلك السلطة وتنظيم سيرها.

مأساة الإنتلجنسيا العربية أصبحت معقدة، وتبسيطها لتكون قضية أخلاقية وقيمية بحتة

هو ظلم لها وجور من المجتمع على نفسه

وعلى من تكمن فيهم آمال وطموحات وإمكانات الأمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"