ما يستحق استخلاصه من انقلاب تركيا

04:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
لعلها من المرات النادرة التي تفشل فيها قطاعات من الجيش التركي بالقيام بانقلاب على السلطة القائمة. فقد سبق أن قامت المؤسسة العسكرية بأربعة انقلابات آخرها في العام 1997 ضد حكومة نجم الدين أربكان. فشل الانقلاب هذه المرة يعود في الأساس إلى تمسك الأتراك بنظامهم الديمقراطي حتى لو كان بعضهم في صفوف المعارضة، وقد لوحظ أن أكبر حزبين معارضين وهما حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية ، قد أعلنا رفضهما للانقلاب مع منتصف ليلة الجمعة / السبت،15/ 16 يوليو 2016 ، فيما كان الوضع ساعتها يبدو قد رجح لمصلحة الانقلابيين وذلك بسيطرتهم على المفاصل الرئيسية للبلاد، رئاسة هيئة الأركان، المطارات، التلفزيون الرسمي، البرلمان مقر حزب العدالة والتنمية الحاكم.
لدى الكثير من الأتراك ما يؤاخذون به الحكومة القائمة، وقد ثبت من مجريات الانقلاب وردود الفعل الشعبية والسياسية عليه أنهم لا يريدون العودة إلى عهد الانقلابات وسيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية. وفي واقع الأمر أن هذا التغيير الذي تعيشه تركيا منذ بداية الألفية الثالثة هو ما حمل قطاعات متضررة من الجيش على القيام بهذه المغامرة الانقلابية، فقد تم إعادة المؤسسة العسكرية في تعديلات دستورية إلى دورها المهني والقومي كمدافعة عن الوطن والمواطنين ضد التهديدات الخارجية، بدلاً من النص السابق الذي يضع هذه المؤسسة كحامية للعلمانية، وهي عبارة كان يسهل تأويلها لتسويغ التدخل المباشر والمكشوف في الحياة السياسية والعامة وتنصيب من تراه وإقصاء من تشاء.
كان قادة في المؤسسة العسكرية يشكلون أغلبية في مجلس الأمن القومي ، وهو أعلى هيئة أمنية في البلاد، ووفق التعديلات الدستورية تقلص حجم تمثيل المؤسسة العسكرية إلى خمسة عسكريين مقابل تسعة مدنيين ، فيما يترأس مجلس الأمن القومي مدني يتبع لرئاسة الوزراء، كما أن المجلس نفسه كهيئة تقلصت صلاحياته وباتت قراراته غير ملزمة. وهو ما لم يرُق لشريحة من قادة الجيش التي ظلت تتحين الفرص للانقضاض على الوضع القائم، والعودة إلى عهد سابق كانت فيه المؤسسة العسكرية تتسيّد بالتحالف مع قطاع من رجال الأعمال على المشهد السياسي.
وسواء كان المحتجون على ما جرى من منسوبي حزب العدالة والتنمية أم من عامة الشعب غير الحزبيين، فإن نزول الناس على الشارع رغم حظر التجول وخطورة الوضع، يدلل على أن هذه الهبّة الشعبية هي التي أفشلت الانقلاب ودفعته منذ الساعة الأولى نحو التهميش والعزلة، وقد نجم عن ذلك سقوط عشرات الضحايا والمصابين من المدنيين.
غير أن ما يسترعي الانتباه بعد ذلك أن انشقاقاً أو تمرداً قد حدث بالفعل في المؤسسة العسكرية ، وهو الأوضح والأخطر منذ أمد طويل، وأن سلاح الجو بالذات قد عرف هذا الانشقاق، بما سيؤدي إلى إعادة بناء قطاعات منه. يذكر هنا أن الجيش التركي من أضخم جيوش المنطقة بتعداد يبلغ 670 ألفاً، وبميزانية 18 مليار دولار، ويرتبط باتفاقيات تعاون مع حلف الأطلسي الناتو. وقد أسسه كمال أتاتورك عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية. ولم تتم إعادة النظر في العقيدة العسكرية للجيش، إلا في السنوات القليلة الماضية وبعد نحو تسعة عقود على تأسيسه.

العدد الكبير من ضحايا محاولة الانقلاب، أسبغ على هذه المحاولة طابعاً دموياً، فيما كانت الانقلابات العسكرية في عهود ماضية «نظيفة»! غير ملطخة بدماء الضحايا، وهو ما يشكل خاتمة دراماتيكية لعهود الانقلابات ولتدخل الجيش في الحياة العامة، مع ازدياد القناعة لدى الأتراك بأنه مهما كانت شدة معارضتهم ووجاهتها لحكومة منتخبة، فإن الآليات الديمقراطية هي الكفيلة بتحقيق تغيير آمن، وليس زج الجيش في الحياة السياسية وتعريض الخيار الديمقراطي إلى خطر ماحق.
الحصيلة أن هذه المحاولة وضعت حداً يكاد يكون نهائياً، لنفوذ المؤسسة العسكرية التركية على الحياة العامة.
بقي أن يشكل هذا الحدث فرصة للفريق الحاكم لإعادة حساباته ومراجعة مواقفه في الداخل. أي حزب يحكم منفرداً حتى لو وصل إلى السلطة بطريقة ديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، فإن الطريق أمامه تصبح مسدودة، وتمثيله للمشهد السياسي يظل ناقصاً بدون مشاركة بقية الأطراف، وأن الديمقراطية قد تمهد الطريق أحياناً لشكل من أشكال التسلط. نعني هنا الانسداد السياسي، مما يملي التحرك في مقبل الأيام نحو حكومة ائتلافية تتمثل فيها أوسع شرائح المجتمع السياسي، وهذا هو الرد الأفضل على ما جرى، علماً أن الموقف الشجاع والنزيه الذي اتخذته أحزاب المعارضة الرئيسية ضد الانقلاب في وقت حساس بدا فيه أنه قد نجح، يمنحها كل الحق أن تكون شريكة في السلطة القائمة، علاوة على ما تتمتع به من تمثيل في البرلمان، وإذا كانت حكومة يلدريم قد اتخذت خطوات نحو المصالحة مع محيطها الإقليمي فمن باب أولى أن تقع مصالحة داخلية يتمتع فيها القوميون والعلمانيون بموقعهم الطبيعي إلى جانب بقية ممثلي الشعب في مستويات الحكم. وهذا هو الدرس الجوهري الذي يستحق استخلاصه مما حدث.

محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"