مخاوف من مصادرة الثورات الشعبية

03:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

يرى مراقبون إلى الثورات الشعبية العربية مؤامرة خارجية، وبالتحديد رغبة أمريكية بإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بعد الانسحاب من العراق . وحجتهم في ذلك أن حسني مبارك لم يعد يفيدهم في شيء وأن رغبته في توريث ولده كان محكوماً عليها بالفشل بسبب معارضة الجيش، وكان لها أن تشيع عدم استقرار مديد في حال وفاته المفاجئة، وبالتالي كان ينبغي التخلص منه .

وبالنسبة إلى ليبيا فإن نفطها يساعد على حل الأزمة الاقتصادية في الغرب الرأسمالي، وسيطرة حلف الناتو المباشرة على هذا النفط لم تكن ممكنة في وجود القذافي . وفي ما يتعلق بسوريا بات من الملح ضرب حلف الممانعة عن طريق إسقاط نظامها أو إضعافه لإجباره على تغيير سياسته الخارجية .

هذا التحليل يعني أن الولايات المتحدة و/أو غيرها قادرة حينما تشاء على تحريك الشارع في أي دولة عربية لإسقاط نظامها أو زعزعته، وبالتالي ينسب قدرات خارقة إليها ويعتبر الشارع العربي مجرد دمية والناس فيه جاهزون للموت بأوامر خارجية . إنه تحليل يقترب من العنصرية والاستهتار بالجنس العربي . لكن تحليلات أخرى تقول إن واشنطن توقعت قيام الثورات العربية وكيفت سياساتها مع الواقع الجديد الناجم عنها حفاظاً على مصالحها في المستقبل . هذا التفكير أقرب إلى المنطق لكن فيه ثغرة هي الاعتقاد أن واشنطن أو أحداً في العالم توقع ما حصل . هذا أمر مستحيل فالثورات إجمالا كالزلازل تبقى عصية على التوقع .

تشترك الثورات الكبرى التي قامت في العالم عبر التاريخ في سمتين أساسيتين، عدا ضرورة تجمع أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها لتفجيرها، السمة الأولى أن كل الثورات تعرضت غداة نجاحها في إسقاط النظام إلى ما يسمى بالثورة المضادة وتسلم السلطة بعدها انتهازيون ومن قدامى النظام المنحل . كان دوماً ثمة مرحلة انتقالية بين عصرين قبل أن يجري تصويب الأمور بعد فترة قد تطول أو تقصر . والدول الكبرى هي أكثر من يعرف الاستفادة من المنعطفات الكبرى التي تحدث في الدول الضعيفة . وبالتالي فإن ما يحدث من محاولات غربية لمصادرة الثورات العربية أو توجيهها الوجهة الملائمة لبعض المصالح والاستراتيجيات أمر طبيعي ولا بد من التفرغ لمواجهته في أسرع وقت ممكن بعد نجاح الثورة .

السمة الثانية التي تشترك فيها الثورات عبر التاريخ هي أنها عصية على التوقع . هذا ما تبينه الكتابات المنشورة ومراسلات السفراء إلى حكوماتهم في البلدان التي اندلعت فيها ثورات كبرى كالثورة الفرنسية (1789) أو البولشفية (1917)، أو الإيرانية (1979)، أو انهيار جدار برلين، وانفراط عقد المعسكر الشيوعي السابق (1989) . هذه الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ ليس من وثيقة واحدة تدل على أن أحداً كان متأكداً من حدوثها قبل أن تحدث، وإن كثرت الكتابات اللاحقة التي تحلل العناصر التي فجرت هذه الثورات والتي كانت بائنة وواضحة ومعروفة للجميع .

يمكن القول إن الوضع في البلد الفلاني بات لا يحتمل وإن الاحتقان فيه بات ينذر بثورة، لكن هذا يعد توصيفاً لواقع أكثر منه توقعاً لحدث كبير . هذه حال الزلازل، فعلماء الجيولوجيا يستطيعون معرفة أن بلداً معيناً يقع على فالق زلزالي يوشك أن يتحرك وأنه مهدد بزلزال مدمر، لكن يستحيل عليهم معرفة تاريخ هذا الزلزال ولو قبل يوم واحد من حدوثه . وقد لا يحدث الزلزال المتوقع إلا بعد عشرات السنين من القول باحتماليته . هذه أيضاً حال الحروب التي تتجمع كل أسبابها وتصبح متوقعة في أية لحظة لكنها قد تنشب في أوقات غير منتظرة أو لا تنشب أبداً في بعض الأحيان .

في الحقيقة منذ القرن التاسع عشر وبفعل الثورتين الصناعيتين الكبيرتين، هبت على العالم موجات ديمقراطية أربع طاولت كل قارات العالم بما فيها بعض بلدان إفريقيا جنوبي الصحراء التي يضرب بها المثال في التخلف . وبقي العالم العربي خارج التصنيع والحداثة تسيطر على معظم دوله أنظمة استبدادية قروسطوية . كان لا بد للموجة الديمقراطية أن تصل إليه بطريقة من الطرق، وعسى لو أنها بقيت في إطار سلمي حضاري، كما كانت عليه الموجة التي أطاحت المعسكر الشرقي السابق في أوروبا في نهاية ثمانينات القرن المنصرم .

وتختلف الثورات العربية عن غيرها في أنها أتت كهبة شعبية غير مخطط لها ومن دون حزب طليعي أو قائد أو أيديولوجيا . هنا تكمن جدتها وصعوبة توقع ما ستسفر عنه، علماً أن الالتفاف عليها ومصادرة نتائجها وتحويلها عن السبيل الذي ينبغي أن تسلكه يبقى أمراً محتملاً . وهنا قد تكمن المؤامرة إذا شئنا استخدام هذا التعبير . لكن ينبغي التعويل على وعي الذين فجروا الثورة وقادوها والإيمان بأنه عندما تمسك الشعوب بمصائرها تفتح سبيلها بيدها إلى الحياة الحرة الكريمة وإن كان عليها أن تجتاز مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر والعقبات . فالعبور من أنفاق الاستبداد إلى رحاب الحرية ليس نزهة أو رحلة استجمام وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"