مد البصر إلى العالم الثالث

05:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحياناً تخطر على بال الإنسان أسئلة ملحة: هل تمعن الأنظمة والمجتمعات العربية النظر في ما يجري من حولها لتتعلم وتأخذ العبر؟ وإلى أية جهات وبلدان تمتد أبصار هذه الأنظمة والمجتمعات بحثاً عن الدروس؟ ذلك بأن أنظمة الحكم العربية، مهما كان نوعها، قد ادعت منذ الاستقلال أنها معنية بتحديث مجتمعاتها وبنقلها من حالات التخلف إلى آفاق العصرنة. وظلت الأنظمة، ومعها شعوبها، تعيش تحت الانطباع التاريخي الذي ترسخ منذ حملة نابليون على مصر والقائل، إن الدروس الحضارية وتجارب التقدم الكبرى لا توجد إلا في مجتمعات الغرب.

ولقد وصل الحال بنا إلى أن نغمض أعيننا عن كل ما يجري من حولنا في مجتمعات العالم الثالث المماثلة لنا في المستوى الحضاري الذي وصلت إليه، والمشابهة لنا في كثير من المشكلات التي تواجهها، ذلك بأن مد النظر إلى آفاق الغرب الحضاري عليه أن يقطع مسافات شاسعة ليرجع في كثير من الأحيان يائساً وهو حسير.

ليس المقصود بالطبع هو عدم التعلم من حضارة الغرب البالغة الثراء والغنى، وإنما المقصود هو عدم الاكتفاء بذلك والبدء بإعطاء الاهتمام الكافي للذي يجري في العالم الثالث والغرف من نهر تجاربه المتدفق، دعنا نأخذ مثلين متواجهين لتوضيح ما نعني.

أولاً: في هذه اللحظة التي نتعلم فيها أبجديات الديمقراطية، هل الأفضل إمعان النظر في الانتخابات الأمريكية وأخذ دروس في مختلف وسائل الديمقراطية المتمثلة في فصول أحداثها، أم أن الأفضل هو إمعان النظر في الأحداث الجارية في باكستان لأخذ دروس مقاومة الاستبداد؟ إن ابتلاءنا في أرض العرب بالانقلابات العسكرية مشابه إلى حد كبير لما ابتليت به باكستان. لكن الفرق بيننا هو أن باكستان، المنتمية للعالم الثالث المتخلف مثلنا، نجح مجتمعها المدني مراراً في مقارعة حكم العساكر والرجوع بنسب متفاوتة إلى الحكم المدني، في حين أن الحكام العساكر العرب ظلوا يتوارثون الحكم عقداً بعد عقد، بل ويورثون أبناءهم من بعدهم، من دون أن تستطيع المجتمعات المدنية العربية مقارعة الحالة العسكرية إلا إذا تفضل وتنازل العسكري الحاكم عن الحكم طوعاً وزهداً كما حصل في موريتانيا والسودان.

إن دراسة تجربة باكستان في حقل النضال ضد استبداد العساكر هي أهم وأجدى بكثير في الوقت الحاضر من دراسة تجربة أمريكا في الحقل الديمقراطي، ذلك بأن فهم المحركات الأساسية في الحياة السياسية الباكستانية بعمق واستيعاب يقود إلى دروس عملية بالغة الأهمية، في حين أن فهم ما يجري في أمريكا يقود في الحاضر إلى دروس نظرية بحتة، وشتان ما بين الدرسين بالنسبة للعرب وهم يحاولون الإفلات، في بعض بلدانهم، من قبضة المؤسسة العسكرية التي تحتكر الساحة السياسية وتفسدها.

ثانياً: المثال الثاني يتعلق باستعمال ثروة البترول، إن إيران دولة من العالم الثالث، ومع أنها محاربة من قوى غربية كثيرة ومحاصرة اقتصادياً ومهددة أمنياً بأشكال مختلفة إلا أنها وظفت الثروة البترولية لتحقيق إنجازات وطنية محددة بنجاح كبير، كما فعلت مؤخراً في حقل المنظومة العلمية - التكنولوجية، وها هي قد وصلت إلى أن تكون الدولة العالمية العاشرة في إطلاق الأقمار الصناعية بقدرات علمية - تكنولوجية ذاتية، والأمر نفسه ينطبق على الرئيس الفنزويلي في استعماله لثروات بلده البترولية في خلق تكتلات سياسية واقتصادية في أمريكا الجنوبية في مواجهة النفوذ والاستغلال الأمريكي المهيمن هناك. إن الحكم في الدولتين لم يمد البصر إلى ما تفعله نيويورك أو لندن بالفوائض المالية من مضاربات في العقارات والأسهم كما يفعل الحكم في بلدان العرب البترولية، إن نظام الحكم هناك، مهما اختلفت الآراء حول ممارساته السياسية، استطاع أن يستفيد من فرصة تاريخية بينما يبدد العرب فرصتهم التاريخية في وديان العبث والاستهلاك النهم الفاحش.

التعلم من حداثة الأنوار الغربية وفلاسفة اليونان ومفكري الغرب واجب، ولكن واجب أيضاً التعلم من طاقات وحيوية الإنسان في بلدان مثل باكستان وإيران وفنزويلا وغيرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"