مسيرة الإصلاح في مصر

02:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي

ما زلت أجاهر بأنني «إصلاحي النزعة» أكثر مني «ثوري التوجه»، وشفيعي في ذلك أن «الثورات» هي انفعالات حادة وذات طابع فجائي غير مضمون العواقب لأنها تبدو مثل «العمليات الجراحية» التي قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة بينما قد يكون «العلاج على البارد» -في بعض الحالات - أمراً أكثر فاعلية وأضمن نتيجة، وقد يقول قائل إن هناك حالاتٍ تتحتم فيها الجراحة بل وبتر أحد أعضاء الجسد ليبقى صاحبه على قيد الحياة ولا بأس من ذلك إذا اقترن بإطار إصلاحي سريع يلحق بالمريض في فترة النقاهة، ولقد قصدت من هذه المقدمة «الطبية» في ظاهرها أن أوضح أن الشعوب قد تعتل صحتها مثل البشر وقد تضطر إلى جراحة عاجلة نسميها «ثورة»، ولكن تلك الثورة لا تحقق أهدافها ما لم تقترن ببرنامج إصلاحي طويل المدى ومشروع قومي يلتف حوله الشعب.
فثورة بلا إصلاح هي جراحة فاشلة كما أن إصلاحاً بلا تغيير جذري يبدو كمن يتعاطى العقاقير والجرح مفتوح ينزف دماً. إن مصر عرفت الثورات عبر تاريخها الطويل ولكن تلك الثورات شهدت أيضاً انتكاساتٍ أضاعت نتائج ما تحقق بل وبددت ما هو قائم لسبب بسيط وهو أنها لم تقم في إطار «مناخٍ إصلاحيٍ» أو «بيئة نهضوية» تشد الدولة إلى الأمام ولا تتركها نهباً للشعارات الزاعقة أو الهتافات الصاخبة أو التظاهرات المتصلة أو الاعتصامات بلا مبرر، لذلك أصدرت كتابًا منذ عشرين عاماً يقارن بين «نهج الثورة» و«فكر الإصلاح» وناقشت فيه مخاطر الثورة الهوجاء التي يمتطيها السفهاء بل والجبناء أيضًا دون روحٍ إصلاحية تعيد الريادة للوطن والقيادة للشعب، وليسمح لي القارئ بأن أطرح في هذا السياق الملاحظات الآتية:
* أولا: إن مصر ليست بلدًا هينًا ولا شعبًا لينًا بل هي دولة شديدة المراس في الحرب وفي السلام، عرفت «مواكب التنوير» قبل غيرها وأضاءت المنطقة بقواها الناعمة وواجهت الغزاة والطغاة على امتداد تاريخها الطويل، ومنذ أسس «محمد علي» الكبير دعائم الدولة الحديثة حمل المصريون «شعلة التنوير» التي أضاءها «حسن العطار» و«رفاعة الطهطاوي» و«علي مبارك» و«محمد عبده» و«طه حسين» و«العقاد» و«الحكيم» وغيرهم. إنها مصر التي أحالت الفعل الثوري عام 1919 إلى منهج إصلاحي يؤسس ل«النظام الليبرالي» ويحمي «الوحدة الوطنية» ويشيد رموز التحديث لدولة مصرية راسخة الأركان عريقة البنيان، وهو أيضًا الشعب المصري الذي أحال ثورة 1952 إلى برنامج إصلاحي يقوم على تحرير الإرادة واستقلال الشعوب وممارسة دور إقليمي فاعل مع محاولة المضي على طريق العدالة الاجتماعية التي تأرجحت صعوداً وهبوطًا وفقاً لشخصية الحاكم الفرد من عبد الناصر إلى السادات ومبارك.
*ثانياً: عندما خرجت الجماهير منذ 5 سنوات لتسقط نظاماً ولتؤسس لفكر جديد وعصر مختلف فقد استبشرنا بها جميعًا سواء من كان يتعامل مع النظام السابق مختاراً أو مضطراً أو أولئك الذين ناصبوه العداء في شرف، ولقد كان الجميع يشعر بأننا في المشهد الثلاثين من الفصل الثالث والأخير وأن الستار سوف يسدل في أي وقت، ولقد قلنا ذلك مراراً ونبهنا إليه مواربة بل وصراحة أيضًا فيما نكتب أو نقول ولكن حكام مصر غالبًا تصيبهم حالة من إنكار الواقع خصوصاً إذا طال عليهم الأمد وامتد بهم الأجل وطالت السنون لذلك توقعنا غداة انتصار «ثورة 2011» بأننا مقدمون على نقلة نوعية تنتشل الوطن من نفق مظلم وتخرج به من «عنق الزجاجة» إلى آفاق واعدة بالإصلاح الحقيقي والعمل لبناء دولة عصرية حديثة تربط بين الديمقراطية والتنمية وتضع المصريين على الطريق الصحيح. ولقد أسهمت «القوات المسلحة المصرية» ذات التاريخ الشعبي المتألق في إسقاط النظام السابق وإنهاء أسطورة «توريث الحكم» ومحاولة نقل البلاد والعباد إلى مسار إصلاحي يتناول ملفات مزمنة مثل «التعليم» و«الصحة» و«العشوائيات» و«تعمير سيناء» و«نزع الألغام» وتحقيق «العدالة الاجتماعية» الحقيقية وإقرار مبدأ «تكافؤ الفرص» مع العناية بتدريب الشباب حتى يتقابل العرض المطروح مع الطلب المتاح وتلتقي «منحنيات السواء» ويختفي «غول البطالة» الذي كان أحد أسباب خروج مئات الألوف إلى الشوارع في ثورتين متتاليتين للخلاص من نظامين رفضنا أولهما لفساده ولفظنا الثاني لانعدام وطنيته.
*ثالثًا: إن التجارب التنموية الناهضة في عالم اليوم لم تقم بالثورات وحدها، فالبرنامج الإصلاحي الذي قاده «شواين لاي» في الصين جاء مكملًا للمد الثوري الذي صنعه «ماو تسي تونغ»، كذلك فإن الخطط الإصلاحية التي اتبعها «جواهر لال نهرو» في الهند هي نتيجة للروح التي نفخها «المهاتما غاندي» بفلسفته ومبادئه الباقية، كما أن مهاتير محمد في «التجربة الماليزية» قد استمد من بشاعة الفقر وشدة التخلف روحًا ثورية إصلاحية نقلت بلاده من مستنقع آسن إلى دولة عصرية متقدمة، وحتى في «الغرب» فإن «حزب العمال البريطاني» بدوره المؤثر في سياسات «المملكة المتحدة» خلال القرن الأخير هو نبت شرعي من «الحركة الفابية» بروحها التقدمية والعلمية في ذات الوقت، فالشعوب الناهضة في«الشرق»و«الغرب»على السواء قامت وازدهرت على دعائم حركات إصلاحية وليس مجرد انفعالات ثورية، ذلك قول نؤكده ونردده عن إيمان ويقين.
*رابعًا: إن «الإصلاح الحقيقي»هو انعكاس لمسيرة علمية تقوم على دراسات مستفيضة وأبحاث ميدانية واستطلاعات جادة من أجل صياغة رؤية شاملة لسنوات طويلة على المدى البعيد مع محطات توقف للمراجعة ترتبط بمعدلات يتم تحقيقها في كل مرحلة منها على حدة حتى تقيس الشعوب ما حققت وتدرك حجم ما أنجزت إذ إن حماسها لما تفعل وقناعتها بالطريق الذي تمضي فيه هما أمران لازمان لتحرك القاطرة إلى الأمام، وأحذر هنا من«النظرة الجزئية»والعمل بنظام «القطعة قطعة» دون أن يكون هناك تصور شامل أو رؤية كاملة لاستشراف المستقبل ومعرفة الخطوة التالية قبل البدء في سابقتها وذلك ضمانًا لعدم الانتكاس أو الدخول في تفاصيل نتوه معها وتضيع فيها الخطوط العريضة للمستقبل.
إنما أردت أن أسجل هذه الملاحظات بمنطق إصلاحي يستكمل الفعل الثوري ويضيف إليه ويبني عليه، فالثورة بلا إصلاح هي جسد بلا رأس، وهي عضلات بلا عقل، وهي انفعال غير محسوب قد يؤدي إلى تشنجات عصبية وعواقب وخيمة يكون من مظاهرها الانفلات الأمني والتدهور الأخلاقي، و«كنانة الله» في أرضه لا تحتمل ذلك مرة أخرى!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"