مصر التي في خاطري

05:00 صباحا
قراءة 5 دقائق
المسألة أبعد من مجرد رأي، في زمن تكاثر فيه شهود الزور، وشح شهود الحق، وغابت الحكمة والحكماء، مقابل وفرة هائلة من "الفهلوة"، وأساليب المهارة في إبقاء إيديولوجيا زاعقة ومكبوتة قيد الكتمان .
كنت أعتقد، أن إعلاميين كباراً من الجزيرة العربية، ممن عاشوا - وعاشروا - تجربة ومخاض ولادة "القاعدة" في أفغانستان، ورموزها من أمثال ابن لادن وعبدالله عزام، قد استعادوا رشدهم التاريخي، وصاروا أكثر قدرة على التفريق بين الغسق والشفق، والغث والسمين .
لم أصدق، أن بعضهم، وأحدهم على رأس محطة فضائية خليجية، وكاتب عمود أسبوعي في صحيفة عربية لندنية، يُصنف اليوم تنظيم "القاعدة" إلى قسمين، قسم معتدل "قاعدة على خفيف . كجبهة النصرة" وقسم متطرف!! . . وكأني به لم يسدل الستار بعد على هذا الفصل الدموي الكريه الإجرامي والتكفيري، فصل التأسيس والانتشار والتفرعات والتنامي .
الغيبوبة مستمرة، ويبدو أنها متجذرة في المفاهيم والمعاني والرؤى، وإن حاولت أن تلبس ثياب الوطنية والأخلاق، لكنها حينما تقدم النصح لدول الخليج، في كيفية التعامل مع مصر وإيران، تحتكم إلى قراءة الفناجين الإيديولوجية البائسة .
قرأت في فبراير/شباط الماضي، لهذا الإعلامي النجم، مقالاً تحت عنوان "كيف يستطيع الشيخ عبدالرحمن السديس إمام الحرم المكي إنقاذ باكستان "من الإرهاب، إضافة إلى إقناع الشعب الباكستاني بلقاحات شلل الأطفال . وبأن العمليات الانتحارية من الموبقات السبع" .
ذكرني هذا الهزل، بهؤلاء الذين ظنوا أنهم يدخلون الجنة، بطول لحيتهم أو قصر ثوبهم، أو قتلهم لمخالفيهم حتى لو كانوا من ملّتهم .
وقرأت له قبل أيام، إنه "يُجزم بأن الحوار السعودي - الإيراني سيفشل"، وأنه "لا ينقذ مصر إلا المصالحة"، المصالحة مع جماعة الإخوان، من دون أن يحدد شروط هذه المصالحة وآلياتها، ومن غير ذكر . لما مارسته من عنف وقتل وترويع، وإعاقة لمسار ديمقراطي حقيقي، وركوب لموجة نهوض منشودة، ونسف لركائز المجتمع والدولة . تذكرت مقالاً آخر لهذا الإعلامي النجم، نشره قبيل تسلق جماعة الإخوان لحكم مصر، تحدث فيه باعتزاز عن اجتماع مهم عقدته قيادات الجماعة في جدة، وعن شرق أوسط جديد، سيبنيه تحالف إخواني مع دولة خليجية كبرى!
تباكى صاحبنا فيما بعد، على الديمقراطية في مصر، حينما أسقط الشعب المصري حكم الإخوان، واستمر في ثرثرته الإيديولوجية البائسة، متباهياً بدوره في "إغاثة" جهادية "للمجاهدين في أفغانستان"، وبتواصله مع رموز إرهابية تكفيرية، ألحقت بالأمة الأذى الكبير، وشوهت جوهر الإسلام، وتحالفت مع لعبة الأمم الشيطانية المدمرة للمجتمعات . وابتكرت ذرائع وأقنعة، تقطر دماً ودماراً وتخريباً - وصادرت تحولات عضوية حقيقية في مجتمعاتنا العربية .
حالة "الزهايمر" الثقافية والفكرية، حالة مستدامة عند صاحبنا الإعلامي النجم، و"الجهاد" إياه عنده "مبرر" في سوريا وليبيا وغيرهما .
أما مصر، فله موقف غريب منها، يستحضر دوماً دورها "السلبي" في اليمن خلال ستينات القرن الماضي، وينبش صفحات التاريخ، فيستحضر "الغزو المصري" في عهد إبراهيم باشا للجزيرة العربية، ويلعن عهد جمال عبدالناصر، وصولاً إلى مصر اليوم .
في مقال له قبل أيام، كتب يقول: "على السعودية أن تتخلى عن نظرية استراتيجية قديمة، آمنت بها أعواماً، وهي الشراكة الاستراتيجية مع مصر" ويبرر ذلك بقوله "لأن مصر لم تعد قادرة على القيام بشروط هذه الشراكة" .
لم يحدثنا عن هذه الشروط، إلا أنه يطالب الرياض، "بممارسة دور الأخ الأكبر، الذي يدفع مصر نحو المصالحة (مع الإخوان بالطبع)"، ويضيف: "إن الرياض لديها القدرة منفردة في ليبيا واليمن ومصر (المصالحة سلمياً) وفي سوريا (عسكرياً) .
أما في ليبيا، فصاحبنا يرى في حفتر، دكتاتوراً جديداً، ويغمز قائلاً: "أغدق عليه البعض أموالاً"، ليحارب "الثوار" .
ما يهمنا في خطابه الأخير، تعريضه بالشراكة الاستراتيجية بين مصر ودول عربية في الخليج والجزيرة العربية، مستخدماً الأقنعة، وهو يشيد بالسعودية، قائلاً: "السعودية وحدها، يمكنها أن تتولى جميع أمر العرب" .
بمعنى، لا داعي لأية دولة عربية أخرى، ولا حاجة للاعتماد حتى على أمريكا، . . السعودية وحدها منفردة قادرة على حل مشكلات العالم العربي المضطرب . . لأنها هي "الأخ الأكبر" . . هكذا يقول .
الرسالة واضحة، رغم كل الأقنعة المزيفة والذرائع الهشة والتوصيفات السطحية: "ممنوع اكتمال ونضج المحور المصري - السعودي - الإماراتي المرن" .
ولم يعد خافياً، أن الغلو والعنف لم يولدا للتو، كما أنهما ليسا نبتاً شيطانياً بلا جذور . . إنهما في صلب هذه الجذور والتثقيف الإيديولوجي والإعلامي الذي ما زال يزعق في الصحف والفضائيات .
مصر الجديدة، بحاجة إلى جهود عربية جماعية ومخلصة، لوضعها على الطريق الصحيح، ورفع منسوب عافيتها الوطنية، ليس في الاقتصاد فقط، بل أيضاً في السياسة والإعلام والتواصل الشعبي . واحتضان الشباب . وأحلامهم في العدالة والعيش الكريم .
مصر ليست فقيرة بكل المقاييس، فيها من الإمكانات الطبيعية والموارد البشرية والعمق الحضاري، والقوتين الصلبة والناعمة . ما يكفي لدخول المستقبل، ولديها من الاحتياطي التاريخي، وقوة الإرادة، ما يحرك التاريخ، وشعبها صبور وذكي ومبدع، وساخر حتى العبث، ومتسامح حتى البراءة .
صحيح، إن مصر الآن، نازفة ومنهكة من إحباطات ربيع سرقته جماعة الإخوان، وما قبله من سنوات عجاف، وإن مصر ستعاني في المرحلة القريبة من ثقل الأحمال والأثمان على أكتافها، ومن ذيول المشروع الإخواني التخريبي المتخلف، إلا أنها تملك الإرادة للخروج من هذه الدوامة، وتخليص المجتمع من مخاوفه الأمنية، وتلبية مطالبه الاقتصادية، واستعادة الثقة في تداول السلطة، وبناء الدولة الحديثة .
حاجتنا الخليجية والعربية لمصر، وهي مستقرة وآمنة وحيوية، لترميم الأمن القومي، وإعادة التوازن لقوة العرب في إقليم الشرق الاوسط، في أزمنة حرجة، انعطبت فيها سوريا والعراق، وتذررت أو كادت دول عربية عدة، وانتعشت فيها الصراعات المذهبية، والحروب بالوكالة، وتردت خلالها قيم المواطنة والتسامح والعيش المشترك، وشاع فيها اللايقين والعنف والغلو . . وضاعت من أصابعنا البوصلة، حتى اللاعبين الدوليين الكبار، ممن تمتع بالقوة، فارقته المصداقية والنزاهة، ويعيش اليوم في حالة بائسة من الارتباك، أمام تعقد وتنوع وتعاظم وانتشار المشكلات ذات الطبيعة الجيوسياسية .
لا أحد مرتاح . . ولا أحد وحده، صغيراً كان أو كبيراً، قادر أن يتولى "جميع أمر العرب"، جربنا الصغير، وجربنا الكبير، وجربنا ما بينهما، العزف المنفرد لا يطرب العرب، والتغريد خارج السرب الجماعي، تأكله الذئاب والغلاة .
. . ثمة قرائن، تبشر بمصر العربية الجديدة، معافاة وقادرة على اجتياز العقبة . . بعون الله وبدعم كل عربي مخلص .

د . يوسف الحسن

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"