مصر بين إيران وتركيا

04:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
أظن أن الدور الإقليمي لمصر مؤشر فاعل إلى وضعها الدولي، فضلاً عن استقرارها الداخلي، والذين يتوهمون غير ذلك يتصورون أن الانتشار المصري في المنطقة يثير لديهم ذكريات حرب اليمن وتداعياتها، أو الانخراط الزائد في حروب "القضية الفلسطينية"، متناسين أن مصر تترجم دورها السياسي في المنطقة إلى مصالح اقتصادية ومزايا استثمارية، وليس صحيحاً على الإطلاق أن الانتشار المصري الواعي الذكي الذي يقوم على أجندة مدروسة هو عبء على الشعب المصري ومقدراته . فمصر قامت تاريخياً على معادلة التميز الإقليمي باعتبارها الدولة المركزية المحورية التي تبيع سياسة وتشتري اقتصاداً !
ونحن نعترف هنا بأن للدور الإقليمي تكلفة سياسية واقتصادية وثقافية، بل وعسكرية أحياناً، ولكن العائد دائماً هو التألق الدولي والتوهج الحضاري، ومصر دولة ليست ككل "الأمصار"، تاريخها يتحدث وجغرافيتها تقول، وسكانها كانوا صناع حضارة عبر التاريخ، ولكن هناك دولاً أخرى في "الشرق الأوسط" تشاطرنا الشعور بالأهمية وترى أن لديها مقومات حضارية موازية مثل إيران، أو تاريخاً سياسياً ثقيلاً مثل "تركيا"، أو قوة عسكرية طاغية مثل "إسرائيل"، بل وأيضاً دول فقيرة قابعة على مداخل البحر الأحمر في شرق إفريقيا تنظر إلينا في تحفظ وحذر لا مبرر لهما، ولذلك فإننا نعالج قضية الوضع الإقليمي من خلال المحاور التالية:
أولاً: إن الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك تعرضت في السنوات الأخيرة لجنوحٍ خرج بها عن خطها المرسوم، حيث تمكن تيار الإسلام السياسي التركي من التقدم نحو السلطة، مرة بتجربة فاشلة برئاسة نجم الدين أربكان وأخرى ناجحة بقيادة رجب طيب أردوغان الذي تمكن من السيطرة على "المؤسسة العسكرية" حامية تعاليم الغازي مصطفى كمال، ثم كان المؤشر الذي أدى إلى استقرار حكومة أردوغان هو القفزة الاقتصادية الكبيرة التي رفعت دخل الفرد التركي من أقل من 4 آلاف دولار سنوياً ليصل إلى 11 ألف دولار سنوياً، فالشعوب مثل الجيوش تمشي على بطونها وتفكر بأمعائها والفيصل لديها هو التغيير في مستوى معيشتها، ولكن الأخطر في توجهات أردوغان هو تطلعاته "العثمانية" وأحلامه في استعادة "الخلافة الإسلامية" من جديد، حيث رأى في "جماعة الإخوان المسلمين" ركيزة تمتد بها أحلامه انطلاقاً من مصر حتى شجعته ثورات "الربيع العربي" فتصور أنه يستطيع أن يقيم حزاماً إسلامياً يسيطر على البلاد والعباد، وقد كان ذلك غريباً على دولته التي ربطتها علاقات استراتيجية ب"إسرائيل"، إضافة إلى ميراثها التاريخي من الصدام بالعرب والعداء لهم، ولكنها حركة التاريخ التي تفاجئنا دائماً بتكرار "السيناريوهات" مع اختلاف في التفاصيل .
ثانياً: إن "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" نموذج مختلف على الطرف الآخر من الخريطة العربية الإسلامية، فهي تقود تياراً مختلفاً عن تاريخها الطويل منذ خرجت من شرنقة الدولة "الصفوية" ثم حكم "الشاه" لتدخل في عباءة "آيات الله"، واستطاعت بدبلوماسية ذكية أن تفرض وجودها على الخريطة الدولية وأن تتقدم ببرنامجها النووي لتزعج الولايات المتحدة والغرب، بل وتخيف "إسرائيل" أيضاً . ورغم نقاط الاختلاف بين "الفرس" و"العرب" وهو اختلافٌ سياسي يلبس رداءً طائفياً سواء في "البحرين"، أو باغتصاب الجزر الإماراتية الثلاث، أو غير ذلك مما تحفل به الأجندة السياسية الإيرانية في السنوات الأخيرة، فإنه يعني أن "الدولة الإسلامية الكبرى" الرابضة أمام البوابة الشرقية للأمة العربية تحمل فكرها الخاص ورؤيتها المختلفة . وبرغم التباين بين السياستين التركية والإيرانية في المأساة السورية ومستقبل الصراع العربي - "الإسرائيلي" وغير ذلك من القضايا الساخنة إلا أنهما تتفقان في رصد ماهو قائم والتفكير في ما هو قادم .
ثالثاً: في ظني، أن الرابح الأول من كل ما جرى في السنوات الأخيرة هو "الدولة العبرية" بعنصريتها وعدوانيتها وجرائمها اليومية، فقد استفادت "إسرائيل" كثيراً مما جرى من تطورات على الساحة الإقليمية، فهي تحاول أن تكون الرابح الوحيد واللاعب الرئيسي في المنطقة، ولا مانع لديها من تحالف غير معلن مع تيار "الإسلام السياسي" في "الشرق الأوسط"!
رابعاً: في غمار ذلك كله، لو تأملنا الوضع العربي الراهن فسوف نكتشف أنه في أسوأ حالاته، فالاختلافات والصراعات، بل والارتباطات الخارجية تعيد توزيع الأدوار العربية بشكل سلبي يغري أعداء الأمة العربية بالنهش في جسدها، تارة بحرب المياه من "سد أتاتورك" في "تركيا" الذي أدى إلى تخفيض حصتي "العراق" و"سوريا" من "نهر الفرات" وصولاً إلى سد "النهضة الإثيوبي" الذي كشف أخيراً عن درجة عالية من العداء للعرب الأفارقة، خصوصاً مصر التي تجري محاصرتها واستهدافها من كل اتجاه، فمصر هي "الجائزة الكبرى" لكل طامعٍ في الشرق الأوسط، وهي "البوابة الفرعونية" لدخول القوى الكبرى إلى المنطقة عبر التاريخ الطويل لها .
خامساً: إن محاولات استهداف مصر ومحاصرتها لمنعها من الإقلاع نحو مستقبل أفضل هي محاولات واضحة أخذت منحنى خطراً مع بزوغ شمس "الربيع العربي" . وظنت القوى الإقليمية أن مصر قد أصبحت لقمة سائغة لمن يريد أن يعطل نموها ويعبث بهوية شعبها، لذلك أصبح من المتعين علينا مراجعة سياستنا الخارجية في خطوطها العريضة بل وتفاصيلها الفرعية، فنحن بحاجة إلى سياسة جديدة تجاه إيران، وأنا أتصور أنه قد حان الوقت لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع "طهران" حتى لا نسمح لها وحدها بالانفراد بالحديث باسم المنطقة أو الضغط على دول الخليج، على الجانب الآخر، إذ لابد من اشتباكٍ سياسي دائم معها وحوار دبلوماسي متصل، فعودة العلاقات لا تعبر عن الحب أو الكراهية، ولكنها تعبّر عن الأهمية المتبادلة للدولتين إقليمياً ودولياً، أما "الجمهورية التركية" فنحن مجبرون على الحذر تجاهها في السنوات القادمة لأن شهيتها المفتوحة تجاه العالمين العربي والإسلامي تدعو إلى مراجعة دائمة ونظرة شاملة ترفع عن المنطقة مخاطر السقوط في مستنقع عثماني جديد!
السيدات، والسادة، يا أبناء مصر من كل الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية والطوائف الدينية والشرائح الاجتماعية . . إن مصر قد أصبحت هدفاً مباشراً لكل قوى البغي والطغيان في المنطقة على حدودها وخارجها وداخلها، كما أن هناك قوى تتربص بها وتريد لبلد الحضارات العريقة ألا تنطلق إلى الأمام وأن تظل مكبلة بمشكلاتها، منكفئة على ذاتها، مغلولة اليدين، مهيضة الجناح، تطحنها الصراعات وتضربها الأراجيف والشائعات وحولها شامتون وحاقدون، بل وكارهون، ولا ينهض استثناءً على ذلك إلا بعض دول الخليج التي انقسمت بين محبٍ عاشق للكنانة وبين كارهٍ موتور لا يريد لها خيراً، لذلك يجب أن تتوحد كلمة المصريين وأن ينبذوا الخلافات وأن يرفضوا أسباب الفتنة وأن يقاوموا الإرهاب في شجاعة، آملين أن يكون الرئيس القادم رئيساً لكل المصريين، لا يحكمه الهوى ولا تشده نوازع شخصية أو دوافع سياسية إلا ما كان متصلاً بالمصالح العليا للبلاد والحقوق المشروعة للوطن . . وسوف تبقى مصر صامدة أمام الرياح العاتية، شامخة أمام العواصف الدولية والإقليمية، مؤمنة بأنها كنانة الله في الأرض .

د .مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"