مصر بين روسيا وأمريكا

03:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

شكلت جولة الحوار الاستراتيجي ما بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، بعد زيارة كيري إلى القاهرة، فرصة للمحللين والمتابعين للشأن العربي والمصري من أجل إبراز طبيعة التحولات الكبرى التي حدثت على مستوى الخيارات الكبرى للسياسة الخارجية المصرية، خلال السنوات القليلة الماضية، وبخاصة بعد الثورة الشعبية ضد حكم الإخوان.
ويأتي الاهتمام المتزايد بالشأن السياسي المصري من منطلق قناعة كل الفاعلين الدوليين والإقليميين بالدور المحوري الذي باتت تلعبه مصر في إعادة تشكيل خريطة التوازنات في المنطقة العربية التي تشهد تحولات غير مسبوقة، نتيجة للاضطرابات الخطرة التي عرفتها العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. واستطاع المتابعون أن يستنتجوا من خلال تصريحات كيري، أن الإدارة الأمريكية قررت أن تغيِّر من طبيعة لهجة تخاطبها مع القيادة المصرية، بعد أن وصلت إلى قناعة مؤداها أن مصر لا يمكنها أن تقايض على أمنها القومي وعلى مصالحها الجيوسياسية الحيوية في المنطقة. وبدا للكثيرين أن واشنطن قد اقتنعت في النهاية أنه لا يمكن استثمار الضعف الاقتصادي المرحلي الذي تمر به القاهرة، من أجل فرض خيارات سياسية غير مقبولة على القيادة المصرية؛ ويمكن القول بالتالي إن الطرفين المصري والأمريكي حرصا على وضع الخلافات بينهما جانباً من أجل التصدي للتحديات الأمنية والسياسية التي تواجه المنطقة. وكان واضحاً بالنسبة إلى الطرف المصري على الأقل، أن العلاقات بين العاصمتين لا يمكنها أن تعود إلى مستوى العلاقات التي سادت في مرحلة حكم مبارك، لأسباب عدة يتعلق بعضها بالرهانات الجديدة لمصر، وبتراجع مستوى العلاقات الأمريكية مع أغلب دول المنطقة، فضلاً عن التقلص الملحوظ في النفوذ الأمريكي في مناطق عدة من العالم. ورأى بعض الملاحظين الدبلوماسيين أن واشنطن سارعت إلى إعادة تفعيل علاقاتها مع مصر، نظراً لقلقها من حالة الاضطراب والغموض التي باتت تخيّم على منطقة الشرق الأوسط نتيجة تنامي التهديدات الإرهابية من جهة، والعودة القوية لإيران إلى الانخراط في مسار الأحداث في المنطقة من جهة أخرى، الأمر الذي جعل واشنطن تشعر بحاجتها الملحة إلى الدور المحوري المصري من أجل إعادة بناء التوازنات في المنطقة، بهدف مواجهة كل من تركيا وإيران اللتين تملكان أجندات مستقلة، من شأنها أن تؤثر في المصالح الأمريكية في المنطقة.
استطاعت مصر في هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة أن تعالج قضاياها الداخلية الكبرى بعيداً عن حسابات السياسة الخارجية الأمريكية، وتمكنت من كسب رهان اقتصادي وجيواستراتيجي كبير من خلال نجاحها في تجسيد مشروع قناة السويس الجديدة خلال سنة واحدة، متحدية بذلك كل التكهنات التي كانت تشكك في قدرتها على كسب هذا الرهان، الأمر الذي جعل أغلبية المحللين يؤكدون أن التحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه القاهرة جاء نتيجة حتمية ومباشرة للنجاحات التي حققتها مصر، نتيجة بسالتها واستماتتها في الدفاع عن أمنها القومي. وكان لافتاً أن زيارة كيري لمصر تزامنت مع انتهاء أشغال إنجاز قناة السويس الجديدة، ومع بداية العد التنازلي لبدء مراسيم الاحتفال بالافتتاح الرسمي لهذه القناة، حيث عكس مستوى الحضور الدولي في هذا الحدث التاريخي، متانة وعمق الخيارات السياسية المصرية الجديدة، التي تسعى إلى بناء علاقة متوازنة مع كل القوى الكبرى وفي مقدمها روسيا وفرنسا وكل دول الاتحاد الأوروبي، من أجل إحداث قطيعة نهائية مع سياسة القطب الواحد التي أثبتت فشلها وخطرها على الأمن القومي المصري.
وتسعى القوات المسلحة المصرية في السياق نفسه، إلى تنويع مصادر التسليح حرصاً منها على امتلاك التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، حيث إنه وبموازاة تقاربها العسكري مع روسيا وإبرامها صفقة صواريخ متطورة، فإنها حرصت على شراء طائرات رافال الفرنسية وتجهيزات بحرية متنوعة، إضافة إلى أسلحة أخرى متطورة من ألمانيا ودول أوروبية أخرى، وتحدثت تقارير إعلامية روسية عن قرب إبرام مصر صفقة من أجل الحصول على طائرات روسية متطورة من الجيل الجديد الذي تنتجه مصانع السلاح الروسي، ويؤكد كل ذلك حرص مصر على تطوير مصادر تسليحها منذ قيام واشنطن بوقف المعونة العسكرية لمصر بعد ثورة 30 يونيو/حزيران 2013، قبل أن تضطر إلى إعادة استئنافها لاحقاً. وتؤكد الزيارات العديدة المتبادلة ما بين القيادات المصرية والروسية، رغبة الطرفين من أجل إعادة التوازن في موازين القوى بمنطقة الشرق الأوسط، ويرى الملاحظون أن القاهرة تتجه إلى إعادة بناء علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو بخطوات متأنية ولكن واثقة حتى لا تعيد تكرار الأخطاء السابقة التي تم الوقوع فيها في بداية حكم الرئيس السادات، وقد أبرزت تصريحات رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف، بمناسبة زيارته الأخيرة إلى القاهرة من أجل تمثيل بلاده في الاحتفال الرسمي لافتتاح قناة السويس الجديدة، مقدار التطور الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين، وكان لافتاً حرص ميدفيديف على التأكيد أن التعاون العسكري المتزايد بين القاهرة وموسكو ليس موجهاً ضد أي طرف.

ويفسّر المراقبون ما يبدو حتى الآن أنه تأرجح مصري ما بين المحافظة على علاقات استراتيجية مع واشنطن والحرص على إقامة شراكة أمنية قوية مع موسكو، على أنه تجسيد لحسابات مصرية بالغة الدقة تنطلق من قناعة القاهرة أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تمتلك القسم الأكبر من الأوراق الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وأنه من الحكمة بمكان أن تحافظ مصر في المرحلة المقبلة على علاقات متوازنة مع واشنطن، وأن تتفادى الدخول في صراع غير مجد مع هذه القوة العظمى التي ما زالت تؤثر في التوجهات الكبرى للسياسات الدولية، بالرغم من التراجع النسبي في مستوى قوتها ونفوذها. كما أن العلاقة مع روسيا وعلى الرغم من أهميتها، إلا أنه لا يمكن المراهنة عليها بشكل كلي، نظراً للظروف الداخلية والخارجية الصعبة التي تواجهها موسكو، وتحديداً في علاقتها المتأزمة مع الغرب. كما أن الحلف الموازي الذي تريد موسكو دعمه من خلال الدفاع عن مجموعة البريكس، من أجل مواجهة الحصار الغربي، لا يزال في طور التشكّل ويصعب الآن التنبؤ بمستقبله على المدى المنظور؛ فالصراع ما بين الغرب والثنائي الروسي - الصيني والتوازنات الدولية المترتبة عنه، لم تتبلور ملامحه بشكل كامل، ومن الخطأ بالتالي السقوط في خيارات متسرعة وغير مدروسة لا تأخذ في الحسبان التعقيدات الكبيرة التي تميز المشهد الدولي الراهن. ونستطيع القول عطفاً على ما سبق، أن مصر ستربح كثيراً من خلال تبنيها لسياسة خارجية جديدة وحذرة، تعتمد على خيار تنويع مصادر تسليحها، وعلى إقامة علاقة ثنائية متوازنة مع الدول الكبرى، قائمة على مبدأ الندية وعلى الاحترام المتبادل للمصالح المشتركة، بعيداً عن سياسة الأحلاف أو التبعية لقطب على حساب أقطاب أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"