مصر في منتصف القرن

05:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

أدعو كل المعنيين بالشأن الوطني بل أدعو كل المصريين إلى التركيز على دراسات المستقبل، فقد شدّنا الماضي طويلًا واستنزفنا الحاضر كثيراً ولم نعطِ الدراسات المستقبلية ما تستحقه من اهتمام مع أن ما نسعى إليه هو بناء المستقبل لأجيالنا القادمة. أتمنى على كل مصري أن يعي دوره وأن يذهب ببصره صوب ذلك المستقبل ليدرك أبعاده وأعماقه ويسعى حثيثاً لدراسته وبناء مقوماته، والأمر يقتضي التركيز على فهم طبيعة التطور وإدراك فلسفة التاريخ، فالدنيا تتغير والعالم يتحول، ولكل عصر رموزه ومعطياته. وعلينا أن ندرك أن جيلنا وربما جيلين بعدنا لن يشهدوا المستقبل كما هو قادم ولكن علينا أن نسعى بنية صادقة وجهد خالص من أجل بناء ذلك المستقبل الذي قد لا نعيشه ؛ لأن سنة الحياة هي أن هناك جيلًا يبني وجيلًا يجني، وهكذا فعل الآباء والأجداد من أجلنا وهذا ما يجب أن نفعله من أجل أبنائنا وأحفادنا، إن لدينا عددًا من المطالب المحددة والشروط اللازمة لاقتحام ذلك المستقبل وبلوغ غاياته وهي:

*أولاً: لقد اكتشفت الأمم وأدركت الشعوب أن عنصر (الإرادة) هو العنصر الحاكم في توجيه المسار وتحديد الاتجاه، إذ أن الإرادة هي عنصر الاختيار الطوعي الذي تمضي به الدولة الحديثة نحو غاياتها، وإذا لم تتوفر تلك الإرادة الواعية فإنه لا أمل في المستقبل، إذ تصبح القرارات السياسية مفرغة من المضمون كما تتحول المواقف إلى تراكم عفوي لا يقدم خريطة للمستقبل تتسم بالرضا العام والقبول المشترك، إن إرادة الشعوب هي التي صنعت المعجزات ورسمت معالم الطريق أمام من مضوا فيه ولا أمل للشعوب إذا لم تحزم أمرها وتجعل عنصر الإرادة في المقدمة، ونحن هنا في مصر نحتاج إلى هذا التوجه الذي يؤدي إلى عملية تعبئة شاملة وحشد وطني وراء استراتيجية طويلة المدى تمضي نحو المستقبل وقد تمتد إلى منتصف هذا القرن.

*ثانيًا: قد يمتلك شعب بعينه إرادة قوية وعزماً أكيداً ولكنه لا يملك (الرؤية) التي تتيح له تحويل تلك الإرادة إلى فعل حقيقي يحركها إلى الأمام، فالرؤية الغائبة هي نوع من فقدان البصيرة واختفاء خريطة الطريق وضياع خطة المستقبل، إن الدولة تبدو في تلك الحالة وكأنها تتصرف بمنطق (شجاعة الجاهل) أي ذلك الذي لا تنقصه روح الإقدام ولا التصميم على الهدف ولكن تعوزه حكمة التفكير وبصيرة المستقبل، إن الإرادة والرؤية عنصران أساسيان لا تنهض الأمم إلا بهما ولا ترقى الشعوب إلا بوجودهما، ونحن في مصر لم نملك بعد الإرادة الكاملة كما لم نملك أيضاً أدوات الرؤية في ميادين الإنتاج والخدمات، إننا ما زلنا أسرى الماضي ولم نتمكن من الزحف نحو المستقبل بإرادة شعبية وعزيمة جماعية وبصيرة وطنية تؤدي إلى رؤية شاملة، والشعوب الواعية تراجع ملفاتها وتشحذ همم أبنائها وتسعى للوقوف على أقدامها بالتعليم الجيد والثقافة العصرية والبحث العلمي الحديث وتلك كلها هي لوازم النقلة النوعية التي تسعى مصر لتحقيقها أملاً في الخروج من النفق واجتياز عنق الزجاجة.

* ثالثاً: إن العزلة عن العالم الخارجي أصبحت مفهوماً نظرياً متخلفاً بل هي حالة غير قابلة للتحقيق في ظل الأفكار والآراء والتطورات المعاصرة، لذلك فإننا نتحدث عن عام 2050 لأننا ندرك أن تلك هي روح العصر وإشاراته الواضحة، إن الشعوب لا تبنى بمعزل عن غيرها كما أنها لا تعطي ظهرها لتجارب سبقتها وخبرات تفوقت فيها، ولم نسمع عن مجتمع بشري نهض وحده أو دولة أقامت تجربتها التنموية بمعزل عن غيرها خصوصاً في عصر (القرية الكونية) التي أدت إلى حالة من الاندماج الإنساني الذي يسعى إلى تطوير وجه الحياة وابتكار أساليب جديدة للتفكير لأن الإرادة والرؤية كلتيهما عمودان كبيران في المستقبل المصري عند منتصف هذا القرن.

* رابعاً: إن دولاً كثيرة في عالمنا المعاصر أدركت أنها تفتقر إلى الموارد الطبيعية ولكنها رأت الاستعاضة عنها بالموارد البشرية المتاحة والتي تبدو في مصر بالتحديد مورداً خصباً لا ينضب، إذ أن (الكنانة) هي التي علمت وهندست وطببت في مواقع متعددة من عالمها العربي وفضائها الإفريقي، ومن الطبيعي أن تسعى لأن تكون قائدة رائدة لأن عبقرية الزمان والمكان هي التي صنعت الدور المصري ولن نعود إلى الوراء. إنني أقول ذلك بمناسبة ما يتردد حولنا من الأصدقاء والأشقاء همساً حول تغييب دور مصر والنيل من مكانتها حتى أن كاتباً عربياً مسؤولاً ذكر في مقال له أنه قد يكون من الأفضل نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى مدينة تونس باعتبارها أصغر حجماً وأكثر نظافة، كما أن الكثيرين يسفهون من مكانة مصر إلى حد التطاول عليها والسخرية منها، إن البعض يتصور أن مصر كيان ضخم بلا روح ومثل هذه الأراجيف تحاول الإساءة إلى مصر في ظروف استثنائية لم يتمكن الآخرون من تحقيقها في ظروف عادية، وقد حان الوقت الذي يجب أن يستيقظ فيه المصريون وأن يدركوا أن هناك عملية استهداف تحيط بهم من كل اتجاه؛ لأن الكنانة كانت ولا تزال وسوف تظل مبعث حقد دفين وغيرة مكبوتة لأن الكثيرين يستكثرون ما كانت عليه.
إننا حين ننظر إلى منتصف هذا القرن فإننا نفكر في صحوة فكرية ونهضة تعليمية وقدرة مصرية مطلوبة على التكيف مع روح العصر والمضي نحوه بثبات ورصانة وإرادة قوية ورؤية واضحة لأن بلداً يتراجع فيه الإنتاج وتتدهور الخدمات ويتزايد السكان بشكل عشوائي هو بلد يحتاج إلى كل أسباب الرعاية والاهتمام والتفكير العميق في المستقبل البعيد والقريب أيضاً، إن التميز العلمي والتدريب المهني وشيوع روح الابتكار وإيجاد حلول جديدة لمشكلات قديمة هي لوازم لحركة المجتمع وبنائه وفقاً لمعطيات العصر الذي نعيش فيه، والقرن الذي نعاصره، والعالم الذي يجري حولنا!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"