مصر وتحدي التموضع الإقليمي

05:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

ليلة الحريق الذي اشتعل في أطراف السفارة الإسرائيلية في القاهرة الجمعة 7 سبتمبر/ أيلول، تردد أن رئيس الوزراء المصري عصام شرف سارع إلى تقديم استقالته إلى المجلس العسكري الذي سرعان ما رفض الاستقالة . لم يتم الكشف عن دواعي الاستقالة، لكن اقترانها بذلك الحدث يستوقف كل مراقب لما يجري . يستذكر المرء ذلك بمناسبة التصريح الذي أطلقه شرف في لقاء مع محطة تلفزيون تركية، والذي وصف معاهدة كامب ديفيد الموقعة عام 1979 بأنها قابلة لإعادة النظر وأنها ليست مقدسة . وهو أول تصريح رسمي من نوعه يصدر عن مسؤول مصري رفيع منذ توقيع المعاهدة .

في واقع الأمر أن الطريقة التي تصرفت بها القاهرة خلال ذلك الحادث أوحت إلى كثيرين، خاصة في مصر، أن السياسة الخارجية لم يطرأ عليها كبير تغيير حتى تاريخه، وأن الاهتمام مازال ينصرف إلى الشأن الداخلي بمعالجة أوجه الفساد التي اتسم بها العهد السابق، والتجاوزات الخطرة التي وقعت بحق المحتجين وأودت بحياة مئات منهم . علماً أنه في بعض الحالات يتعذر الفصل بين ما هو داخلي وخارجي . فصفقة بيع الغاز المشينة تورط بها أركان الحكم السابق، لكن هناك طرفاً خارجياً في الصفقة هو الدولة الصهيونية التي احتج محتجون على وجود سفارتها في قلب القاهرة، بعد قتل ستة جنود مصريين في سيناء من دون اتخاذ إجراء ينتصر للشهداء . وقد لوحظ أنه قد تم أول اتصال بين المجلس العسكري ونتنياهو عقب اقتراف تلك الجريمة بدل أن تعزز الواقعة حالة التباعد .

من المفهوم أن تتم حماية البعثات الدولية والسفارات الأجنبية باعتبار ذلك أحد مبادئ العلاقات الدبلوماسية، غير أن توفير ذلك لا يتعارض مع اتخاذ مواقف سياسية حازمة عند الضرورة بحق دولة ما، وهي هنا الدولة الصهيونية التي مازالت تتصرف بغطرسة مع مصر، وقد سارعت إلى إيفاد جواسيس لها إلى الأراضي المصرية عقب انتصار الثورة وتم اعتقال أحد هؤلاء .

يسترعي الانتباه أن تصريحات شرف للقناة التركية مساء الخميس الماضي 15 سبتمبر/ أيلول الجاري، تكاد تخاطب الأتراك لا المصريين فقط، فقد جمدت أنقرة علاقاتها التجارية والعسكرية وخفّضت مستوى التمثيل الدبلوماسي مع تل أبيب، انطلاقاً من واقعة مقتل تسعة نشطاء أتراك في عرض البحر المتوسط . هذا العدد وهو ليس بقليل، هو كل ما خسرته تركيا، ومع ذلك اتخذت ما اتخذته من إجراءات قوية . فلم يملك رئيس الحكومة المصرية سوى أن يقترب قليلاً من موقف أنقرة التي أثبتت أن علاقاتها الأطلسية لم تقيدها في اتخاذ مثل هذه القرارات المستقلة، وذلك رداً على من يذهب إلى التهويل بالقول إن المساس بالعلاقات مع تل أبيب، يعني مساساً بالعلاقة مع الدولة العظمى ومساعداتها .

سيحتاج المرء إلى انتظار مضي بعض الوقت، قبل أن يشهد المآل الذي سوف ترسو عليه القاهرة في التموضع الإقليمي، وإن كان التقارب مع تركيا يشكل علامة واضحة وإيجابية، مع ملاحظة أن أنقرة لا القاهرة تبدو هي الطرف المبادر في هذا التقارب الاستراتيجي، كما تصنفه تل أبيب ودوائر غربية حريصة على بقاء الستاتيكو السابق الذي كان يعطي ترجيحاً لوزن تل أبيب بفضل علاقاتها الوثيقة آنذاك مع كل من القاهرة وأنقرة . . وسوف تظل الأنظار معلقة باتجاه القاهرة لاستجلاء مدى درجة انسجام الحكم الجديد مع الرأي العام، الذي ترتفع وتيرة عدائه لدولة الاحتلال .

ولن تكون أي تطورات في هذا الاتجاه بغير تأثير في مواقف البلد العربي الآخر الذي يرتبط بمعاهدة مع تل أبيب وهو الأردن الذي وقع ما عرف بمعاهدة وادي عربة في العام 1994 . وقد استرعى الانتباه أن السفير الصهيوني مع عدد من طاقم السفارة قد غادر العاصمة الأردنية حتى من دون إبلاغ السلطات فيها، بعد أيام على حريق السفارة في القاهرة . فيما راجت في صحف إسرائيلية كتابات عمّا سمي بوضع حساس في المملكة الهاشمية مع توقعات صهيونية بنُذُر سوداء على المملكة . واقع الحال أن هذه الافتراضات تهجس بالدرجة الأولى، بتنامي العداء لدولة الاحتلال ولوجود السفارة الصهيونية في الأردن الذي تشهد علاقاته جموداً مع تل أبيب على خلفية انكشاف التنصل الإسرائيلي مما كان يسمى عملية سلمية، حيث تشكل إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة أولوية أردنية رسمية وشعبية، ومع معاودة زعماء صهاينة الحديث عن دولة للفلسطينيين في الأردن .

يثق المرء بأن الربيع العربي سوف تكون له انعكاسات إيجابية على الصراع العربي الإسرائيلي في المدى المتوسط على الأبعد، وذلك مع تنامي وعي عربي جديد يربط بين استحقاق التصدي للاستعباد والفساد الداخليين، وبين موجبات التحرر الوطني والوقوف في وجه الهجمة الصهيونية .

والتململ الصاخب المناوئ لدولة الاحتلال في مصر ثم في الأردن هو شاهد على هذه التحولات العربية، ومن اللافت أن الدولة الصهيونية من جهتها لا تدخر جهداً في تقديم البرهان تلو البرهان على سياستها التي تتنكر للحقوق العربية والمعادية بعمق لكل سلام، بل تضيف إلى ذلك مواقف تدخلية في الشؤون العربية، وهو ما يجعل الأنظار تتجه مجدداً إلى الدولة العربية الكبيرة مصر كي تعيد للسلام معناه المفقود والمفترى عليه، وتسهم في تحجيم الدولة الصهيونية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"