مصيدة النزاعات الأهلية

03:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

سبق للرئيس اليمني أن هدد بصيغة تحذير من حرب أهلية في بلاده إذا تواصلت الاحتجاجات الشعبية وكان أطلق على موجة الاحتجاجات صفة الانقلاب . وها هو صالح قد عاد إلى صنعاء في ظروف غامضة، ومنذ عودته تصاعدت أعمال عنف واسعة، ولقيت قوات موالية له في مقدمها الحرس الجمهوري دفعاً معنوياً بعد غيابه لثلاثة أشهر في السعودية خضع خلالها للعلاج . مضيفوه في الرياض كانوا يأملون بعد أن تعافى نسبياً ضيفهم، أن يسهم في علاج الأزمة الطاحنة في بلاده، وأن يجد سبيلاً إلى التنحي الكريم، وفق جدول زمني قصير كما تقضي المبادرة الخليجية . لكن صالح المتمرس في الحكم منذ 33 عاماً، اختار طريق المناورة وأعاد الكرة إلى المحتجين داعياً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وهو حل كان يمكن الأخذ به قبل اندلاع الأزمة في فبراير/ شباط الماضي وليس بعدها .

ليس صالح بلا نفوذ في بلاده، وإن كان هذا النفوذ شهد تقلصاً على مدار العام الجاري وبالذات في موئله القبلي حاشد، بعد أن تمرد عليه شيوخ عائلة الأحمر . لقد فوجىء كثيرون بعلماء رجال الدين يصدرون بياناً في صنعاء يضعون فيه من يخرج عن طاعة ولي الأمر أي صالح نفسه خارج الدين .

يسهل إيقاظ عوامل النزاع الأهلي في اليمن مع وجود انشطارات اجتماعية عديدة . الحوثيون استفادوا من هذا الأمر طيلة السنوات الأربع الماضية . انكسار تجربة دولة اليمن الجنوبي مع بداية تسعينات القرن الماضي يعود في جانب اساس منه لتغليب الهويات القبلية والمناطقية على التمايزات الأيديولوجية بين فرقاء الحكم والحزب هناك . توفر السلاح بحوزة المواطنين يفاقم هذه المخاوف . ولعل الرئيس صالح لا يساوره ندم في هذه الظروف، لأنه أبقى على السلاح في أيدي مواطنيه . مع ذلك فقد أبدى اليمنيون انضباطاً عالياً بما ذلك الجنود المتمردون على سلطة صالح . فمن بادر إلى أعمال العنف ومن واصل التهديد باستخدامه هم أتباع صالح، وقد لقي هذا الخيار بعض الردود عليه كعملية استهداف صالح نفسه، هذا مع استبعاد تنظيم القاعدة من هذا التصنيف كونه يعمل بوحي خارجي غير محلي . إن أحداً لا يستطيع التنبؤ بمجريات الأمور، خاصة إذا ما جرت مواجهات بين قطعات عسكرية . في عام 1961 مع الانقلاب على حكم الإمامة فإن التدخل العسكري المصري هو الذي حسم النزاع الداخلي، ومعه انضمام قطاعات عسكرية متزايدة إلى حركة عبدالله السلال .

هكذا يتبين أن القصور في بناء دولة القانون ودولة المواطنة، لم ينم عن عدم إيمان بالدولة الحديثة فقط، ولكنه يستبطن الإبقاء على الانشطارات الاجتماعية من أجل استخدامها عند الحاجة لإطالة عمر النظام، وتخيير الناس بين الفوضى العارمة المسلحة، وبقاء السلطة كضامن وحيد لالاستقرار .

لقد عاد صالح للتحذير من حرب أهلية في أول مقابلة صحفية يجريها بعد عودته تايم الأمريكية، وقد خص آل الأحمر بنقمته . وكأنه يمثل فرعاً من قبيلة حاشد مقابل فرع آخر وليس رئيساً لدولة كل المواطنين .

شيء من ذلك حدث في ليبيا، فالولاءات الجهوية لعبت دوراً في تعضيد وضع معمر القذافي وتمكينه من الصمود . وها هي هذه الولاءات تلعب دوراً في إثارة تباينات وخلافات بين مكونات المجلس الانتقالي، وقبل ذلك فقد جرت عملية اغتيال عبدالفتاح يونس في هذا الإطار وربما التكتم الجاري على ظروف الجريمة يعود للحرج من كشف دور العوامل الجهوية في ما جرى . . لعل القذافي كان يأمل بأن تجري سلسلة من الاغتيالات المتبادلة، تُغرق الثائرين ومن وراءهم في بحر من الدم، وفي مناخ من يقظة الانتماءات القبلية والمناطقية . . لم يعتمد الرجل على اللجان الشعبية التي ظل ذِكرها طاغياً لثلاثة عقود، فإذا بها تختفي كأن شيئاً لم يكن لدى أول امتحان، وتحل محلها كتائب القذافي ومن يناصرها بما تيسر من زعامات قبلية ومن المؤلفة قلوبهم . وها هو يواصل معركة التشبث بالحكم، مستعيناً بما رعاه من استقطابات اجتماعية ومن ولاءات نفعية .

الوضع في سوريا أشد خطورة، فالاحتكام إلى القوة المطلقة وسحق المحتجين من مدنيين وعسكريين، يتمان على قدم وساق وعلى مدار الساعة، والمعارضة عاجزة لأسباب موضوعية أولاً وذاتية ثانياً عن تنظيم صفوفها وبلورة خطاب سياسي جامع . انسداد الآفاق أمام أي تغيير ذي معنى يولد المزيد من الاحتقان، ويهدد بمواجهات شبه عسكرية ممتدة قد تجر وراءها استقطابات اجتماعية مختلفة، بما ينذر باستعصاء سياسي يدفع الجميع ثمنه بما في ذلك الحكم القائم .

هكذا تبدو هنا وهناك النزاعات الأهلية كمصيدة يتم الإعداد لها، والتلويح بها ثم استخدامها لقطع الطريق على أي تحولات، ولتدفيع الناس ثمناً فادحاً لإقدامهم على الاحتجاج، حتى لو أدى ذلك إلى إضرار فادحة تبدأ بخسارة أرواح بريئة، ولا تنتهي بخسائر جسيمة تلحق بالاقتصاد الوطني وتفاقم الصعوبات القائمة سابقاً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"