مصير الأصوليّة بعد «داعش»

03:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يبدو تنظيم «داعش»، من الناحية العسكريّة، في أيامه الأخيرة؛ بعد أن أحكمت «قوات سوريا الديمقراطية»، مدعومة من قبل التحالف الدولي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، الحصار على آخر معاقل التنظيم، في قرية الباغوز، التابعة لمدينة دير الزور، شرقي سوريا، ما دفع بمئات المقاتلين وعائلاتهم إلى تسليم أنفسهم إلى قوات «قسد»، ومن المتوقّع أن يسلّم ما تبقى من عناصر التنظيم أنفسهم تباعاً، وربما تكون هناك معركة لحسم الأمر، خصوصاً إذا ما رفض قياديو «داعش» تسليم أنفسهم؛ لكن في كل الأحوال، إن مصير هذا التنظيم بات محسوماً.
نهاية العمليات العسكرية ضد «داعش» تفتح الباب مجدّداً أمام أسئلة كثيرة، فالتنظيم الذي أسّسه (أبو مصعب الزرقاوي) في عام 2004 من رحم «القاعدة»، عرف تحوّلات كثيرة، بين مدّ وجزر، وبعد أن كانت التوقعات قد تنبأت بضعفه؛ بعد تأسيس الصحوات في العراق، في أواخر عام 2006، على يد الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الأمريكية في العراق آنذاك، والتي عملت على محاربة تنظيم ما كان يُسمى ب«الدولة الإسلامية في العراق»، حتى كاد التنظيم يتبخّر تماماً؛ بعد عام 2008؛ لكن تلك التوقعات سقطت مع معاودة التنظيم نشاطه بقوة، وصعوده المفاجئ على مسرح الأحداث، في العاشر من يونيو/حزيران 2014، حين تمكّن من الاستيلاء على مدينة الموصل العراقية.
الأوضاع في العراق وسوريا، فرّخت العديد من التنظيمات الإرهابية، ولئن كان «داعش» أبرزها، إلا أن الفصائل الأخرى ليست أقل تطرّفاً، وهي لا تزال موجودة، وتضم في بنيتها التنظيمية آلاف المقاتلين من المنطقة والعالم، كما في حالة «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً)، إضافة إلى حركات أخرى، بعضها تلفّه حالة من الغموض؛ مثل: «تنظيم حرّاس الدين»، و«الحزب التركستاني»، وغيرهما، ولا تزال الأوضاع السياسية في البلدين، على الرغم من بعض التباينات الجوهريّة، في حالة مزرية؛ إذ إن البلدين يعانيان من هيمنة الخارج، ويفتقدان إلى حضور الدولة، مع انقسامات اجتماعية هائلة، كرّستها سنوات الحرب.
لقد استحوذ «داعش» على اهتمام العالم بأسره، خلال السنوات الخمس السابقة، كما أصبح مبرراً لعودة هيمنة الخارج، خصوصاً في سوريا، مع تغافل المجتمع الدولي عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء صعود التطرّف، مع استثمار قوي من قبل جهات إقليمية؛ لتوسيع رقعة نفوذها في المشرق العربي، وخوضها صراعات فيما بينها، لا تبدو نهايتها قريبة، مع تأكيد أنها استثمرت في تقوية التنظيمات الإرهابية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
إن التركيز المتواصل على مكافحة الإرهاب إقليمياً ودولياً، ومحاصرته عسكريّاً وأمنيّاً وتجفيف منابع تمويله، تجاهل أن الإرهاب مجرّد أداة، وليس هو المحرك، وبذلك فإن الحرب على الإرهاب أصبحت حرباً على الأدوات، وليست حرباً على المُنتج الحقيقي له، كما أنه يتجاهل بشدّة دور الأنظمة غير الديمقراطية في بناء منظومة اجتماعية قهريّة، قابلة للانفجار؛ حيث تسمح لها الظروف، كما حدث ويحدث في مختلف أرجاء العالم العربي.
لا تزال الدولة العربية هي دولة الغلبة، وهي سلطة أكثر مما هي دولة، فالدولة الحديثة هي دولة المؤسسات غير المشخصنة، والتي يحترم فيها الدستور، حقوق المواطنين وكرامتهم، ويضمن لهم حريّة التعبير عن معتقداتهم الفكريّة والسياسيّة، كما أن تغيير الحكومات فيها يخضع لمنطق التداول السياسي؛ عبر التنافس البرامجي، من دون أن يهتّز أمن البلاد، أو يُخشى عليها من الانهيار، كما أن الحكّام غير معصومين عن الخطأ، ويخضعون للمساءلة عن نتائج أعمالهم، كأي موظف أو مواطن.
إن صعود الأصوليّة في مجتمعاتنا يرتبط بشكل مباشر بطبيعة الأنظمة السياسية، وبطبيعة الدولة القائمة، وبطبيعة الفكر السياسي السائد، وبمنظومة القيم السائدة، من أيديولوجيا وأعراف وتقاليد، وهو ما يمكن أن ندعوه بمنظومة «الفوات التاريخي»، بحسب تعبير المفكر الراحل ياسين الحافظ، وبالتالي فإن الأصوليّة في مجتمعاتنا تأخذ أشكالاً عدّة، وهي ليست حكراً على الشكل الإرهابي، وهو، أي هذا الشكل، قد يكون الأوضح والأخطر والأكثر إفصاحاً عن نفسه؛ لكنه مجرد شكل من بين أشكال عدّة، يمكن رؤيتها في منظومات التربية والتعليم والإعلام والسياسة.
الأصوليّة، من منطق علميّ التاريخ والاجتماع، هي إجابة خاطئة عن الحاضر والمستقبل؛ لكنها إجابة خاطئة من بين عدّة إجابات خاطئة، فالديكتاتورية هي أيضاً شكل من أشكال الإجابات الخاطئة، والتبعية للخارج مقابل حماية السلطة هي إجابة خاطئة، وكل هذه الإجابات في عالمنا العربي متجاورة ومتداخلة، وتعمل بمنطق الفعل وردّ الفعل تجاه بعضها، ولهذا فإن نهاية «داعش» المرتقبة قد تنهي فصلاً من فصول صعود الأصوليّة في ثوبها الإرهابي؛ لكنه بالتأكيد لن يكون الفصل الأخير، فما يزال الطريق طويلاً نحو الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"