معضلة إيطالية جديدة

03:52 صباحا
قراءة 4 دقائق

إنها لعبة الدخان والمرايا: هكذا تبدو الحملة الانتخابية الحالية في إيطاليا، سواء في نظر الإيطاليين أو بقية العالم. بطبيعة الحال، لا جديد في هذا؛ إذ إن الديناميكيات السياسية في إيطاليا كانت دوماً تُحيّر المشاركين والمراقبين على السواء. ونجاح حزب وسطي صغير في حمل المحاكم على تأجيل الانتخابات الآن لن يشكل إلا إضافة إلى هذه الحيرة المعتادة.

إلا أن أمراً واحداً يبدو مؤكداً هذه المرة، ألا وهو النتائج المحتملة. فلسوف يسجل سيلفيو بيرلسكوني، زعيم تحالف جناح اليمين، ثالث فوز انتخابي له (كان قد خسر انتخابين أيضاً)، بينما من المتوقع أن يسجل الاقتراع في مجلس الشيوخ تعادلاً في الأصوات. وإذا ما حدث ذلك فلسوف يكون بوسع القوى المناصرة لبيرلسكوني أن تتحالف مع الحزب الكاثوليكي تحت زعامة بيير فرديناندو كاسيني، أو تعمل على تشكيل ائتلاف مع خصمها من يسار الوسط، الحزب الديمقراطي تحت زعامة والتر فيلتروني.

هذا الخيار الأخير، الذي لم يكن مجرد تصوره ممكناً من قبل، أصبح محتملاً الآن لأن بيرلسكوني لم يعد يدير ذلك النوع من الحملات الانتخابية الملتهبة التي تعوّد عليها في الماضي. فقد تخلى عن النبرة الحادة والشراكة الشرسة التي دامت ثلاثة عشر عاماً. ويبدو أن بيرلسكوني بات يدرك الآن تمام الإدراك مدى صعوبة إدارة بلد كإيطاليا.

وهو في أشد الحاجة لمثل هذا الإدراك. ففي ظل الدين العام الذي من المتوقع أن يصل إلى 102% من الناتج المحلي الإجمالي أثناء العام ،2009 وارتفاع معدلات التضخم، وتدني معدلات النمو إلى 2.0%، سوف يكون من الصعوبة بمكان أن يفي أي مرشح بوعوده الانتخابية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك البنية الأساسية العامة المتدهورة، والعجز عن اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية، يصبح الموقف الاقتصادي أشد قتامة وكآبة.

فضلاً عن ذلك، ورغم أن الشركات المملوكة للدولة، مثل تيليكوم، وأوتوستراد، واليطاليا كانت خاضعة لسياسة تدخلية متطرفة من جانب رومانو برودي، إلا أنها لن تكون ذات تأثير ملموس. أما الخطط الرامية إلى إنشاء خط للسكك الحديدية بالغ السرعة للربط بين إيطاليا وشمال أوروبا فما زالت تعاني من التأخير على نحو متواصل. وفي نابولي أصبحت أزمة القمامة تمثل مشكلة غير قابلة للحل، الأمر الذي يعرض السمعة الدولية لواحد من أشهر المنتجات الإيطالية، جبن الموزيريلا، للخطر الشديد.

ففي ظل الأزمة التي تعيشها أسواق المال العالمية واتجاه الاقتصاد الأوروبي نحو التباطؤ، سوف تصبح التحديات التي تواجه الحكومة الإيطالية الجديدة أعظم. وقد يتجلى أيضاً مدى صعوبة إدارة السياسة الخارجية في هذا السياق. وبفضل النشاط الجديد من جانب فرنسا والمملكة المتحدة، فضلاً عن بروز ألمانيا كلاعب رئيسي في إدارة شؤون الاتحاد الأوروبي، تفاقم خطر تهميش النفوذ الإيطالي.

إذا ما عاد بيرلسكوني إلى منصبه فلسوف يسعى بكل قوته إلى التعاون من جديد مع الولايات المتحدة، وهو المسار الذي يسلكه الآن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني غوردون براون. وإذا نجح في مساعيه فلسوف ينشأ ما يشبه مجموعة الاتصال المؤلفة من ست دول (فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وإسبانيا، وبولندا، وإيطاليا)، لتحديد هيئة العلاقات الجديدة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. والحقيقة أن هذا النوع من الزعامة بات مطلوباً، لأن الإدارة الأمريكية الجديدة، بصرف النظر عمن سيكتب له الفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، من المحتم أن تطالب بقدر أعظم من المشاركة من جانب الاتحاد الأوروبي فيما يتصل بالتعامل مع الصراعات الدولية.

إلا أن إيطاليا، على العكس من فرنسا، ليست في موقف يسمح لها بالاستعانة بشيء كجمال كارلا بروني، زوجة ساركوزي الجديدة، كبديل للهيبة. فلتحقيق هذه الغاية يتعين على البلاد أن تعزز من دورها كمحرك للإصلاح الأوروبي الجاد، دون إهمال الحوار الدائر بشأن الدور الذي ينبغي للدول الأعضاء أن تلعبه في ما يتصل بالخيارات الاقتصادية المتاحة أمام الاتحاد الأوروبي. وهنا تستطيع إيطاليا أن تنتهج السياسات الاقتصادية ذات التوجهات الأشد وطنية، كتلك التي تنتهجها الآن فرنسا والمملكة المتحدة، من دون إلحاق الضرر بعلاقتها بالمسؤولين التكنوقراط في بروكسل.

والأمر الوحيد الذي يبدو مؤكداً فيما يتصل بالانتخابات القادمة إذا لم تحدث أية مفاجآت في اللحظات الأخيرة هو أن الملياردير بيرلسكوني سوف يعيد التأكيد على إمساكه بزمام السياسة الإيطالية. والحقيقة أنه كان الحاكم الحقيقي لإيطاليا طيلة السنوات الثلاث عشرة الماضية. حين ولدت حركة فورزا الإيطالية تحت زعامة بيرلسكوني بهدف توحيد مجموعة عريضة من القوى السياسية في أعقاب الانفجار الداخلي الذي شهده الحزب الديمقراطي المسيحي في العام ،1994 نجحت في إثبات قدرتها العجيبة على المناورة، فضلاً عن إجماع أعضائها القوي والثابت على عقيدة أساسية.

في هذه الانتخابات، قرر بيرلسكوني أن يفتح الباب أمام تحالف جيانفرانكو فيني اليميني الوطني، والذي تمكن بالاستعانة به من تأسيس مجموعة جديدة أطلق عليها شعب الحرية الحزب الوحيد المتحالف مع الاتحاد الشمالي تحت زعامة أمبيرتو بوسي في محاولة لضمان الحصول على الدعم لحكومته من جانب حزب رئيسي أشد قوة وأكثر تماسكاً والتحاماً. أما كاثوليك اتحاد المسيحيين وديمقراطيو الوسط ويمين ما بعد الفاشية تحت زعامة فرانشيسكو ستوراسي، فقد تركوا التحالف. كما ذهب فيلتروني في اليسار إلى خيار مماثل. ويتحالف حزب فيلتروني الديمقراطي الآن مع حزب القيم تحت زعامة أنطونيو دي بيترو. أما الحزب الشيوعي والاشتراكيون فقد تركوا التحالف الذي شكله برودي بهدف اكتساب الأغلبية البرلمانية اللازمة.

كان الغرض من إعادة ترتيب الأوراق على هذا النحو تأسيس أحزاب أكثر استقراراً وضخامة، إلا أن الأمر ما زال يحتمل المزيد من التغييرات. فمن المرجح أن تتنافس الأحزاب السياسية من وسط اليمين القوي المناصر لأوروبا ومن وسط اليسار في انتخابات البرلمان الأوروبي المقرر انعقادها في ربيع العام 2009. ومع تقدم أوروبا نحو الأمام في عملية الإصلاح، فإن السؤال المطروح على إيطاليا الآن هو ما إذا كانت لعبة الدخان والمرايا هي كل ما تستطيع السياسات الإيطالية أن تقدمه الآن.

* المتحدث الرسمي الأسبق باسم اتحاد المسيحيين وديمقراطيي الوسط،

ومستشار الاتصالات لرئيس وزراء إيطاليا، ومؤسس مجلة Formiche

والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"